منذ سنوات وقد بدأت فرحتنا بمولد مسلسل كوميدي يحمل همومنا ويناقشها دون تردد مهما صال وجال في بيئتنا المحلية السعودية.
وكان من نتاج المسلسل الشهير (طاش ما طاش) التنفيس وعرض الممارسات الخاطئة القابعة خلف نفوسنا وخلف مؤسساتنا الحكومية والخاصة.. وصار هذا المسلسل يُشكِّل لنا وجبة فنية بعد إفطار رمضان لا نتصور أنفسنا بدونه.. ولأننا جميعاً نسعى للفائدة ونتبادل الآراء فيما بيننا لرفعة المجتمع الحبيب فلا بد لنا من الحوار السليم والمحترم بيننا كمشاهدين وفرق عمل يكون هدفه المصلحة العامة.
في أجزائه الأولى لم يكن المسلسل يُحظى بهجوم نقدي طال سمعة الفنانين عبد الله السدحان وناصر القصبي ورميهما بتهم التهكم والسخرية على فئات معينة في المجتمع.. إلا أن ذلك لم يطل مع التحوُّل الجذري للمسلسل من جزئه الخامس بالتحديد والذي أعطى فيه هامشاً من الحرية لم تحظ به المسلسلات الأخرى، فهذا الجزء كان بداية التغيُّر لأهداف هذا المسلسل (هذا من وجهة نظر شخصية) فمع مناقشة القضايا اليومية لم يكن طاش ما طاش إلا مسلطاً الضوء على شخصيات معينة وإبراز سلبياتها في كل عام (على مدى أحد عشر عاماً).
ومع مرور الأجزاء الستة الباقية كان فريق المسلسل قد تماشى مع شخصياته التي رسمها لنفسه ووضعها في إطار لم يقبله معظم أفراد المجتمع السعودي، وهذا ما أدى إلى ثورة في إعادة النظر في المسلسل والاعتقاد بأنه قد غيَّر مساره ليخدم توجهات معينة معروف موقف المجتمع السعودي منها ومع ايماني التام بأن هدف الأخوين ناصر وعبد الله هو بالطبع شريف إلا ان ذلك لايمنع من ابداء الرأي تجاه هذا العمل الممتع وتناول سلبيات المسلسل التي قد تطغى علي ايجابياته (هذا من وجهة نظر شخصية).
أولاً: يدَّعي فريق عمل المسلسل أن الهيئة التي تظهر فيها شخصيات المسلسل تُعبِّر عن الوجه الحقيقي لأفراد المجتمع ولنأتي هنا الى شخصية المرأة في المسلسل وكيفية تقمصها العباءة السوداء حيث لم تظهر صورة للعباءة الشرعية في وضعها الصحيح إلا في شخصية المرأة كبيرة السن!! وهذا يقودنا الى سؤال مهم: أليس باستطاعة فريق العمل ان يلزم الممثلات بالتعبير الحقيقي عن المرأة السعودية (هذا اذا افترضنا ان طريقة الحجاب المشاهد هو اجتهاد خاطئ من قِبل الممثلات)؟ والعباءة الشرعية معروف أنها تمثل عبادة وليست عادة في المجتمع السعودي، ولعلي هنا قد تجاوزت أمراً لن يقف عنده الإخوة في فريق العمل الا وهو النظرة الشرعية تجاه ظهور المرأة على شاشة التلفاز ولكنني ألتمس العذر لهما لعدم وجود حل في رسم شخصية للمرأة إلا بظهورها جسدياً.
ثانياً: في الممارسة النقدية التي تقدمها لنا المسلسلات المحلية ألمس طريقتين: الأولى يُمارس فيها النقد للفائدة والثانية يُمارس فيها النقد لأغراض أخرى، والاخيرة باعتقادي هي التي يسلكها المسلسل باستمرار أي انه ينتقد لكسر بعض الحواجز (هكذا يسميها البعض) يعتقد انها تمنع الفن السعودي من التقدم ففي الجزء العاشر تطرَّق المسلسل في احدى حلقاته الى استخدام العنصر النسائي كوسيلة جذب في المستوصفات والمستشفيات.
وقد عرض المسلسل هذه القضية كما هي وكان الهدف واضحا في الحلقة وهي عرض العنصر النسائي بطريقة لم يسبق للتلفزيون السعودي عرضها! وبالتالي اتاحة المجال لممارسات مماثلة تؤدي بالطبع الى اختلاط الحابل بالنابل فيما يقدم الى مجتمعنا المحافظ، وهنا أحب أن أنوه بنقطة غاية في الأهمية وهي أن التطرق لأي قضية اخلاقية لا يتم بعرضها كما هي في الحقيقة أي أن عرض قضية (التحرش الجنسي مثلاً) لا يجب ان يعالج بعرضه بتلك الطريقة الحقيقية او ما يقارب لها للمشاهدين.. كذلك ممارسة عادة (التفحيط) لا اعتقد ان من المناسب تناولها بوجود مفحطين وإخلاء الطرقات لهم لتصوير المشاهد فنحن هنا عالجنا الخطأ بالخطأ الاول وهو وجود ظاهرة (التفحيط) بين الشباب في المجتمع وهذا هي المشكلة الاساسية والحقيقية اما الخطأ الثاني فهو جلب المسلسل لشباب يقومون بممارسة هذه الظاهرة علناً وبصورة رسمية فما الفرق في الممارسة بين المشهدين؟ لا سيما اذا علمنا انه في تصوير مشاهد (التفحيط) في مسلسل طاش ما طاش قد حدثت بعض الصعوبات التي كادت ان تؤدي الى حوادث.
أعود لأقول بأن تناول بعض القضايا لا يتم بممارستها على ارض الواقع فوعي المشاهد وذكاؤه كفيلان بأن يتخطى القائمون على بعض المسلسلات هذه الاشكاليات وتوظيف مبدأ (اللبيب بالإشارة يفهم) اما ان تعرض القضايا كما هي ويُتاح الأمر بتصويرها واقعة امام ناظر المشاهد فذلك سيصبح هدما اخلاقيا لا غير.. فمن سيفرق بين السلبية على ارض الواقع وعرضها بواسطة المسلسل؟؟ وهذا للأسف ما يحدث في بعض الانتاجات الفنية في دولنا العربية فقد ادى عرض القضايا بالطريقة الخاطئة الى سوق جنس واغراء تتسابق فيه الفضائيات لتحصل على افضل الافلام في العري، وقد اصبح ما يقدم ليس هدفه النقد البناء (هذا على اقل تقدير) كما انني أؤكد بأن ليس كل سلبية هي ممنوعة من التطرق لها وتمثيلها واخراجها للمشاهد.. فقط هي تلك القضايا التي تمس الاخلاق والشرف.
ثالثاً: لا شك ان الجزء الحادي عشر من المسلسل لم يحمل اي جديد سوى حلقة (البادئ أظلم).. اما الحلقات الباقية فلم تحمل باعتقادي اي هدف بل ان الاتجاه الى حلقات هي في الخيال (كالحلقة التي كان فيها الشخص الذي صار يعرف ما في قلوب الناس وما تتحدث به ضمائرهم) يُعد افلاساً وتكملة للعدد المطلوب من الحلقات!!
أما حلقة (بدون محرم) فقد كانت بحق تجنياً على المجتمع السعودي وعلى مبادئه (وليست عاداته وتقاليده) ولا أعرف هل اسمي تلك الحلقة ب (التكشير عن الانياب) لجرأتها وبكل وضوح على نقد امر شرعي وهو وجود المحرم، ففي احد مشاهد هذه الحلقة امتنع احد رجال الامن من دخول المنزل (الذي اقتحمه اللص) بحجة عدم وجود المحرم!! وهنا اقف متعجبا من صنيعة هذا المشهد فلا الانظمة الامنية ولا الاعراف الاجتماعية تمارس هذا النوع من عدم المسؤولية، ولا اعتقد ان رجلا سعوديا او امرأة سعودية قد مرَّ بمثل هذا الموقف بل ان المتعارف عليه هو عدم وجود محرمات في طريق السيطرة على مثل هذه الجرائم فكيف صوَّر لنا المسلسل هذا المشهد (الذي اشك في انه سيسهم في تأصيل صورة سيئة عن المجتمع السعودي حينما يقال ان اللص يسطو على المنازل والانظمة لا تسمح باقتحامها إلا بوجود رجل!!).
ولكي لا اكون متحاملا على فريق عمل المسلسل فلنفترض حسن النية في تناول قضية وجود المحرم وهي مشكلة نادر حدوثها (اقصد بذلك نسبة وجود النساء اللاتي بدون محرم في بلدنا) فلماذا إذاً لم يتطرق المسلسل (وعلى مدار اجزائه الأحد عشر) إلى قضية الاختلاط في المستشفيات وتناولها من وجهة النظر الدينية..؟؟
وقضية الغزو الفكري الذي يتعرَّض له الشباب..؟؟ كذلك قضية امتلاك البعض من رجال الاعمال لقنوات تستهدف اخلاق الشاب السعودي..؟؟ بل لماذا لا تناقش قضية تلمس الجانب الايجابي في شخصية الشاب الملتزم بدلا من تقديمها سلبية دائما مرتبطة بوجود اللحية!! كل هذه القضايا يعتبرها فريق عمل مسلسل طاش ما طاش لا تستحق التناول (بدليل تكرار التوجه العام للحلقات في اغلب اجزاء العمل)، وهي تُمثِّل جانباً مهماً في النقاش لدى افراد المجتمع بالاضافة الى يقيني التام بأن افكار المشاهدين التي يستقبلها فريق العمل سنويا كانت تتطرق الى هذه القضايا بطريقة او بأخرى فلماذا يعرض فريق العمل عن مناقشتها؟
حقيقة يُلقى اللوم على فريق العمل فهل من المعقول ان قضايانا جميعها نوقشت ولم يبق منها شيء؟؟ اشك في ذلك بل ان هذا الاعتراف غير المباشر من فريق العمل يجعلنا نعيد النظر في صدق توجهه فهل كانت قضايانا تنحصر فقط في تلك الأسرة المنغلقة والتي أبى ربها ان يكشفها للناس؟ ام تلك الشخصية الملتزمة والتي لا تبحث إلا عن الزواج؟ أم في شخصية كبير السن الذي خرَّف وأخذ يهذي بكلام غير مفهوم؟ وهذه هي الشخصيات التي يجول فيها المسلسل كل عام.
هذه الأمور مجتمعة هي التي دعت البعض الى اعادة النظر في حقيقة المسلسل وعرض القضايا التي تهم المجتمع واصراره على نقد فئات معينة طوال الاجزاء الماضية في حين يصد عن مناقشة قضايا اخرى معينة يعتبرها المجتمع قضايا الساعة.
وفي الجزء الثاني عشر لهذا العام يقدم فريق العمل حلقة حول التشدد والتطرف الديني ولا شك ان الاحداث التي تعرَّضت لها بلادنا الحبيبة تستحق هذه الوقفة من فريق المسلسل وعرض أسباب التطرف الديني الذي أدى الى الممارسات الارهابية التي عانى منها المجتمع السعودي، واقف هنا مستغربا عن عدم تطرق فريق العمل وعلى مدى اثني عشر عاماً لقضية دعاة الانحلال والذين يمارسون ابشع الجرائم في حق المجتمع فكما ان شخصية المتشدد اثارت شجوناً لدى فريق العمل وجعلتهم يسرعون في كتابة القصة والسيناريو المناسبين وتصويرهما خلال سنة واحدة او اقل، يتمنى افراد المجتمع ان يثير ذلك التوجه الكبير لبعض رجال الاعمال حينما ينشئون المراقص الليلية ويدعمون كل فنانة تمارس العهر العلني ولا يتورعون في رعاية كل ما له عداء مع الاخلاق وبثه للمشاهدين ويتمنون ان يثير ذلك كله شجون فريق مسلسل طاش ما طاش ويحاولون ان يبرزوا لنا مساوئ هذا التوجه الذي يلحظه كل شاب وفتاة في هذا المجتمع على مدى سنوات طويلة، والذي وللأسف تتبناه فئة ليست أقل خطراً من الفئة المتشددة سالفة الذكر.
ان التطرق لقضايا هامشية وتجاهل أخرى رئيسة ومصيرية سينقص من مصداقية أي عمل فني مهما طال به الأمد.
وما أخشاه هو التأثر بتوجيهات معينة أدى السير بها في بعض البلدان المجاورة الى جعل الفن لا يعبر عن المجتمع بل يشوه صورته.
* حامد عوض العنزي - الرياض
المحرر الفني:
ما قرأتموه هو رأي الأخ حامد العنزي حول حلقات طاش السابقة والمأمول من المسلسل رمضان القادم.. والموضوع نفتحه للنقاش ونستقبل مشاركاتكم حوله على إيميل الصفحة art@al-jazirah.com.sa.
|