إن المتأمل في نشأة المملكة العربية السعودية يجد أن الإمكانيات لم تكن الأداة التي مكنت من إنشاء هذا الكيان والمحافظة على استمراره وإنما يجد أن الإنسان بما يحمله من قيم روحية وثقافية كان العامل الحاسم في إنشاء هذا الكيان متغلباً على جميع المعوقات التي كانت تحول دون قيامه، وبالتالي يمكن لنا القول: إن الإنسان يعتبر الثروة الحقيقية لهذه البلاد.
وإذا جاز لنا النظر إلى الإنسان باعتباره علامة فارقة في هذه المعادلة فإن القيادات تعتبر الجزء المكمل لنجاح الإنسان في هذه البلاد في قيام هذا الكيان وصيانته بل يمكننا القول إن دور هذه القيادات كان له الدور المحوري في هذا الصدد إذا علمنا دور الزعامة في البيئة العربية بشكل عام وفي البيئة القبلية بشكل خاص، ويبرز هنا الدور الطليعي للملك عبد العزيز - رحمه الله، ولأن إنجازاً بهذا الحجم قد تكون هناك العديد من العوامل التي مكنت من تحقيقه إلا أننا سوف نحاول تسليط الضوء على العوامل التي مكنت من إعداد قادة ساعدوا على قيام هذا الكيان.
إن المتأمل للبيئة الاجتماعية في تلك الفترة يلحظ أن إعداد الفرد لتولي مسؤولياته يبدأ مبكراً عبر تهيئة صارمة له من الناحيتين الروحية والثقافية لمواجهة متطلبات الحياة الصعبة في تلك الأحيان ولأن الأمن كان العامل المفقود في تلك الأحيان فإن الفرد في تلك الأحيان تتم تهيئته للتعامل مع هذه المشكلة سواء من الناحية النفسية أو من الناحية المهارية، حيث كانت مجالس القبيلة في الصحراء أو مجالس الحي في القرية أداة للتثقيف الجماهيري حيال الأدوار المرتقبة منهم حيث كان يتم في هذه المجالس استعراض أخبار وسير الرجال السالفين والمعاصرين والذين كان سلوكهم يعتبر الأنموذج الذي يجب أن يتم التطلع له من قبل الجميع وكانت قيم الشجاعة والصبر والإيثار والكرم هي القيم التي يتم التركيز عليها وكانت الأسفار وكذلك عمليات الدفاع يتم فيها القيام بعمليات التهيئة البدنية والمهارية.
وفي ظل هذه البيئة تكون الفرصة متاحة لمن لديهم المهارات القيادية الكامنة لإبراز ما لديهم من مهارات تصب في صالح حماية أمن الجماعة وعليه فإن هذه الكيانات الصغيرة كانت تمثل معامل اختبار لإعداد هذه القيادات.
في ظل هذه البيئة برز دور الملك عبد العزيز في إتاحة الفرصة لهذه القيادات بممارسة دورها والمشاركة في بناء هذا الكيان حيث جاء دوره مكملاً لما تفرضه البيئة الاجتماعية من متطلبات سواء على مستوى الفرد أو القيادة حيث قام - رحمه الله - بصياغة دور ورسالة جديدة لها، ولأن دور الدولة كان في البداية يركز على المهام الأساسية للدولة في توفير الأمن والدفاع وتوفير العدالة فإنه - رحمه الله - وجد أن المهارات التي توفرها سبل التربية الدينية والاجتماعية في تلك الفترة بالإضافة إلى التوعية بمفاهيم ودور الدولة في تلك الفترة كانت كافية لتمكن القيادات من القيام بعملها على النحو المطلوب.
وبعد توحيد الدولة في عهد الملك عبد العزيز وبداية انتقال الدولة من الدور التقليدي إلى أدوار ذات علاقة بالتنمية الاجتماعية مثل التعليم وكذلك توفير الخدمات الأساسية مثل المواصلات وكذلك مع توسع علاقات الدولة في الخارج فقد تطلبت تلك المرحلة نوعية مختلفة من القيادات لإدارة دفة العمل التنموي تجمع بين التأهيل العلمي المتخصص بالإضافة إلى المعرفة بقيم هذه البلاد والأسلوب الملائم لإدارة دفة العمل فيها.
وقد كانت الفرصة متاحة في البداية لبعض الشخصيات الذين قام الملك عبد العزيز باستقطابهم من الدول العربية كمستشارين وكمسؤولين تنفيذيين في بعض القطاعات الحكومية. ونظراً للحاجة لإعداد قيادات وطنية تسهم في إدارة دفة البلاد فقد قامت الدولة بجهود لتهيئة سبل الإعداد العلمي داخل الوطن وخارجه للعديد من الأفراد الذين أصبحوا فيما بعد قادة إداريين أسهموا بنجاح في القيام بواجبات عملهم.
إن بداية عمل هذه القيادات في الدولة قد تزامن مع بداية التطور في بناء الجهاز الإداري وبالتالي فإن تطورهم في القيام بواجبات مهام عملهم قد تزامن مع التطور في الجهاز الإداري من حيث رسالته وتنظيمه؛ الأمر الذي أتاح لهم الفرصة في الاختبار التدريجي للأساليب المناسبة للتعامل مع المواقف المختلفة تحت توجيه القيادة العليا بالإضافة إلى الفرصة المتاحة للحصول على المشورة الملائمة من المؤسسات والشركات الدولية التي عملت الدولة على استقطابها في هذه الفترات.
إن العديد من هذه القيادات أيضاً قد أتيحت لها الفرصة بالاتصال مع الجيل السابق الذي قام ببناء الدولة ومن خلاله أمكن لهم الخضوع للتربية الاجتماعية الصارمة التي تهيئ الشخص للنضوج المبكر للتعرف على الأدوار المطلوبة منه من حيث مسؤوليته الفردية والجماعية.
ونظراً لمحدودية الجهاز الإداري في بداية نشأته من حيث الحجم وكذلك من حيث الدور فقد أتيحت الفرصة للعديد من القيادات للاتصال المباشر بالقيادات العليا حيث عرفوا عن قرب أسلوب صناعة القرار وكذلك المحددات التي يتعامل معها القائد الإداري في بيئة العمل السعودية والتي مكنتهم فيما بعد من أن يكونوا قادة إداريين ناجحين بحيث يقومون بإدارة متطلبات عملهم وفقاً للاعتبارات المهنية المتاحة مع الأخذ بعين الاعتبار متطلبات السياسة الداخلية؛ لأن مقياس نجاح القرار أو التنظيم ليس انطلاقه من أرضية علمية ومهنية فقط وإنما قابلية هذا القرار للتطبيق في ظل بيئة ذات محددات ثقافية واجتماعية معينة.
وعليه فإن المتأمل في الوضع الحالي يدرك أن الجهاز الإداري سوف يواجه مشكلة في الفترات القادمة؛ لأن الكثير من القيادات الذين جرت الإشارة إليهم فيما سبق قد تقدموا في السن ويتطلب الأمر إعداد قيادات بديلة حتى تقوم بإكمال المسيرة؛ حيث نرى أن الأمر يكتنفه بعض الصعوبات إذ إن العوامل التي أتاحت الفرصة للقيادات السابقة قد لا تكون متوافرة الآن حيث يلحظ المتتبع ضعف فاعلية دور المؤسسات التربوية في إعداد الفرد من الناحيتين الروحية والثقافية في ظل تعدد مصادر التلقي الإعلامية وضعف الترابط الاجتماعي، بالإضافة إلى ذلك عدم وجود وسيلة للتعرف على متطلبات القيام بالعمل الإداري سواء على المستوى الاستراتيجي أو الإجرائي؛ وذلك لأن صنع القرار يتسم بالبطء والحذر الشديد في التعامل مع البيئة الاجتماعية؛ الأمر الذي يتطلب كثيرا من الحنكة السياسية التي يفتقدها الكثير من التكنوقراط.
لذا فإن الأمر يتطلب توفير آليات بديلة لإعداد القادة الإداريين خصوصا في ظل التطورات التي تشهدها البيئة التي يعمل فيها الجهاز الإداري على الصعيد الداخلي متمثلة في المتغيرات الديموغرافية والاقتصادية وكذلك على الصعيد الخارجي متمثلاً في تيار العولمة وما صاحبه من ثورة في عالم الاتصالات وكذلك التوجّه للخصخصة وإدارة الأنشطة الإدارية الحكومية وفقاً للاعتبارات الاقتصادية.
|