Tuesday 31th August,200411660العددالثلاثاء 15 ,رجب 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

مساكين أهل الأندية الأدبية:!! مساكين أهل الأندية الأدبية:!!
د. حسن بن فهد الهويمل

كنت في مطلع شبابي مغرماً بالحكايات الخرافية: حكايات الحبّ والغرام والبطولات الأسطورية، مثل (تودّد الجارية) و(سيرة بني هلال) و(عنترة بن شداد) كنت أقرؤها على السُّرج وفي العشيات، ولا أحتاج إلى نظارات، ولا إلى نصاعة أوراق، ولا إلى صفاء جو، وحين أقرؤها لا يخامرني شك في صدق أحداثها؛ ولهذا أحزن في مواقف الحزن، كما يحزن الأبطال حين يخفقون في معركة حبّ أو حرب، وأبتهج في مواطن السرور حين يظفرون بإحدى الحسنيين، لا أعرف (الرومانسية)، ولكنني غارق فيها إلى الأذقان، وكنت ألتقط بعض الأبيات وبعض العبارات، وأمارس الكتابة الركيكة الفارغة، متمحوراً حول المقتبس، ثم أبعث به إلى الصحف، فلا أجد اسمي ولا حتى في بريد القراء؛ فأتهم ذويها بالجهل والغطرسة. ومما علق في ذاكرتي، وهي ذاكرة (شهرزادية) مقروء الليل يمحوه النهار قول الشاعر:


(مساكين أهل العشق حتى قبورهم
عليها تراب الذل بين المقابر)

وأذكر أنني كنت أترنم بمثل هذه الأبيات، وأنا مستلق أعدّ النجوم بانتظار ما لا يأتي من النوم الهانئ الذي تذوده عني الحشرات التي تنق، والبعوض التي تطن، وهبوب النسمات التي تلفح، وكأن عليّ رصدين: ضوء الصبح والإظلام: القراءة المؤثرة والأحلام المزعجة. ومع تطاول الزمن فارقت ذلك كله؛ فما عادت هناك (رومانسية) حالمة بعد أدلجة الأدب وتسييسه، وبعد أن غمرتنا فيوض المترجمات، ولم يبق في الذاكرة إلا القليل، فلقد حفظت البيت والعبارة والمثل، أرددها، وأذكرها كلما مررت بحدث أو حديث، وها أنذا أذكر هذا البيت عندما أوغل الناقمون والفضوليون، ومن ما زالوا في مرحلة الطفولة الأدبية في جلد (الأندية الأدبية) ومن حولها من أعراب الأدب، كما جلد الذات العربية، لقد هبّ هذا البيت من مرقده في الذاكرة، ولكن بصيغة جديدة:


(مساكين أهل الفن حتى كهوفهم
عليها تراب الذل بين الدوائر)

وما تذكرت هذا البيت إلا من بعد ما تبين لي أن المتصدين ل(الأندية الأدبية) بعنف وتعميم ممّن لم يكونوا حاضري المشهد الأدبي، وحتى لو أعطوا مفاتيحها، وتلقوا راياتها، وخلا لهم الجو، فإنهم لن يبيضوا، ولن يصفروا، ولست أدري لماذا يكال هذا الذم للأندية ولمن هم قائمون عليها من علماء وأدباء ومفكرين، وما لهم من ذنب إلا أنهم حُمِّلوا الأمانة فحملوها على وجهها، ولو قيل لهم تخلوا عنها، لتولوا، وهم يجمحون. قد يكون البعض من العاملين في الأندية حرياً ببعض ما يقال عنه من تقصير، وقد يكون بعض الناقدين محقين فيما يفيضون به من نيل؛ لما يلاقيه بعضهم من تهميش لا يليق ممّن هم على رأس المسؤولية في الأندية. وأنا فيما أكتب لا أدافع عن أحد، ولا أبرئ أحداً، ولا أقول في مشروعية النقد؛ فكل ذلك لا مبرّر له؛ فالنقد مشروع وحق، وكلّ الأدباء خطاؤون: القائمون على الأندية، والمختلفون إليها، والمختلفون معها، والمتخلفون عنها، غير أني أستغرب التعميم في المؤاخذة، والمبالغة في النيل، والانتقال من الموضوعي إلى الشخصي؛ فالأندية كغيرها من المؤسسات لها وعليها، ومن يبرئها أو يبرئ نفسه، فهو كمن يجازف في نقدها ويعمّم، لا فرق بين هذا وذاك، وكلا طرفي قصد الموقف النقدي والموقف منه ذميم، ولمّا يكن الخلاف حول مطلق النقد، وإنما هو حول طرائقه وأساليبه وعدم احتشامه، كما أنه لا يكون حول التزكية أو الإدانة، وكيف تسوغ التبرئة، والنفوس كما في الذكر الحكيم أمّارة بالسوء إلا من رحم ربك؟ وكيف يحال بين المحقين والنقد؟ وكل أمور الحياة لا تستقيم إلا به، غير أن لكل شيء حداً؛ فلا تجوز الإطلاقات ولا التعميمات، ولا تجريد الأندية من كلّ مكرمة، وليست الأندية وحدها في هذا الهمّ، فكم من مسؤول ضُرب ضرب غرائب الإبل، وحزم حزم السلم، ولم يحر جواباً، بل احتسب الأجر على الله. والمؤلم أن أكثر الذين ينالون من الأندية لا يعرفون ما هي عليه، ولا يدركون ما تعانيه من شحّ في الموارد، وندرة في الكفاءات، وهبوط في المستويات، وعزوف عن المحاضرات والندوات والأمسيات. ومع أن المتصدّين لها يلحّون في النيل، ويحزون إلى العظم في التأنيب والتأديب، ولا يدعون فرصة تفوت إلا استغلوها للاستخفاف، لا للموعظة ولا للنصيحة؛ فإنهم لم يقدموا لها ما يجب عليهم، ولم يستفيدوا منها كما يجب لهم. والأصوليون يشترطون التصور قبل الحكم، والمخلصون الصادقون من يسائلون أنفسهم قبل مساءلة الآخرين؛ فالحقوق صنو الواجبات، فكيف يجيزون لأنفسهم الإيغال في الذم، وهم أبعد الناس عن الأندية، وأزهد الناس بها، وأبخل الناس عليها؟ وإذ تكون الأندية منهم وإليهم فإن عليهم أن يسألوا أنفسهم: كم مرة زاروها؟ وكم مرة التقوا بالمسؤولين عنها؟ وكم مرة حضروا فعالياتها؟ وكم مرة قرؤوا مطبوعاتها؟ وكم مرة كتبوا عنها بموضوعية وإنصاف؟ وكم مرة قدموا لها الآراء والمقترحات؟ وكم مرة استجابوا لدعواتها، أو حضروا بعض اجتماعاتها؟ إن لها عليهم حقوقاً ممطولة، ولهم عليها حقوقاً لم يتقدموا لأخذها. ومما يؤسف له أن طائفة من النقاد: إما أن تكون لهم مشاكل خاصة، أو أنهم شلليون. وبعض هؤلاء يكشفون عن شلليتهم بحيث ينالون ممن لا يتفق مع هواهم، علماً أن التعددية الفكرية والأدبية مطلب مهم للأندية. ومما أعرفه جيداً أن طائفة من المبتدئين يودّون أن تكون الأندية والعاملون فيها موطئي الأكناف لهم، ليتخذوا منها سلماً يصعدون عليها، وسبيلاً قاصداً يسلكونها للشهرة والحضور، يطلبون منها أن تقدمهم للمشاهد نقاداً متفوقين ومبدعين متألقين، على الرغم من أن بضاعتهم مزجاة, وإمكانياتهم محدودة، وحين لا تستجيب الأندية لرغباتهم الفجّة يوسعونها ذماً وتقريعاً، ولا يتحرجون من النيل الشخصي من ذويها، وإذا كان المسرفون في النقد صادقين مخلصين فإن عليهم أن يأتوا الأندية من أبوابها، وأن يضعوا العاملين فيها أمام أخطائهم، وأن يحملوهم على تلافيها، وليس محرماً عليهم أن يساعدوهم على تجاوزها؛ فمجرد الرغبة في الإدانة لا تغني ولا تقني. والمقتدرون على الكتابة يحملون أمانة الكلمة، وهي أمانة ثقيلة، وواجبهم الصدق والتحري والتثبت، ومعالجة التقصير بالتلميح لا بالتجريح، وبالتوضيح لا بالتوبيخ. ومن كانت بينه وبين أحد من المسؤولين في الأندية ثأرات أو خلافات شخصية فليتحاشَ إصابة مَن لا ذنب له، وليكن شجاعاً محترماً للمصداقية يقول عن دوافعه؛ فالأندية حق مشاع لكل مواطن، وليست حكراً على طائفة دون أخرى. لقد أحسست بالغثيان من تطاول مقيت قد يطال الأمانات والأخلاقيات والمواقف، ولم أجد أي مبرر لمثل ذلك النيل الشخصي؛ فالأندية مؤسسات ثقافية وطنية، تعكس قدرة المشاهد الأدبية والثقافية على العطاء، وحين يغل المقتدرون أيديهم تنكمش الأندية، وتعطي صورة سيئة عن المشاهد الأدبية في البلاد، والعاملون فيها ممن يحتاجون إلى الدعم والمساندة، متى بدا منهم تقصير غير مقصود، فليس ذلك مسوغاً للنيل منهم بأعيانهم، وممارسة التهكم والسخرية والافتراء. وما علم الناقمون والساخرون أن طائفة من رؤساء الأندية وأعضائها العاملين يتوفرون على المكانة والمادة والحضور الفاعل خارج الأندية، وأن بقاءهم فيها تحقيق للمواطنة التي لا يريدون من ورائها جزاءً ولا شكوراً.
ومع كلّ ما سبق أعرف جيداً أن من أهل الأندية من يظن أنها من ممتلكاته؛ يفعل فيها ما يشاء، ولا يرى لأحد الحق في أن يسأله عما يفعل، وأن منا من يتصور نفسه فوق المساءلة والنقد؛ فهو لا يرى مشروعية الممارسة النقدية فضلاً عن صحتها ومعقوليتها، وأن منا من يباهي بما يجب عليه، ويدّعي الأولويات، ويحسب أن كلّ نقد موجّه إلى شخصه حسد من عند أنفس الناقدين، مما يحمله إلى مجاراة سيئة بمثلها، وبعض الردود الانفعالية من بعض المسؤولين عن الأندية تعمّق العداوة، وتزيد من حدة المناكفات، وحين تُبادل الأندية المسفين بإسفاف مثله تفقد ألقها وأهليتها ومكانتها، وما وجدت أفضل من المرور الكريم على كلّ تطاول لا مبرّر له، والقبول الحسن لكل مساءلة معقولة ونقد موضوعي بناء وتوجيه سديد. والناقدون الباحثون عن الحق يختلفون عن الناقمين الذين يتشفون بالتجريح، والعلماء الأصوليون يفرقون بين النصيحة والتعبير، والحاذقون الراصدون يعرفون المزايدين ومسجلي المواقف بسيماهم، وليس من مصلحة المشاهد كافة المزايدات وتسجيل المواقف. والمتصدون للأندية أوزاع؛ فأناس يطلبون تغيير العاملين جملة، وآخرون يطالبون بإلغاء الأندية وتحويلها إلى مؤسسات أخرى، وموتورون يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ فيصبّون نقمتهم على من يعيش حضوراً في المحافل والمناسبات، وكأن ذلك سبة الدهر، وما هو إلا الحسد والعجز، وكل أولئك أو بعضهم لا يدرون ما الأندية وما الأدب. والحقيقة والحق يضيعان بين هذا وذاك، ولو أنهم إذ سمعوا أو رأوا ما يسوء حرروا القضايا، وحددوا أوجه النقص، وطالبوا بإزالتها، وساعدوا على ذلك، وقدموا النصح والمشورة لكان ذلك خيراً لهم وللأندية التي ينقصها الشيء الكثير، ولا يستقيم أمر النقد حتى يقف حيث تكون المشاكل، لا يستدعي الأشخاص على حساب القضايا، ولا يسبق التأنيب المحاسبة. ونحن بهذا لا نبرئ الأندية ولا الأنفس. الأندية بحاجة إلى تجديد لوائحها، والأندية بحاجة إلى دعمها بوجوه جديدة وطاقات شابة، والأندية بحاجة إلى آليات مرنة، ولجان متعددة، وأنشطة متنوعة، وإمكانيات قوية، ومقارّ مناسبة، ومكتبات شاملة، ومراكز معلومات، وشبكات اتصال، وخدمات معرفية، وتنظيم معارض ومؤتمرات، وتجسير الفجوات بين المشاهد العربية كافة. ولكن شيئاً من ذلك لن يتحقق بالتلاسن والتلاحي والمناكفات وتصفية العاملين فيها. الإشكالية ليست في العاملين، إنها في الإمكانيات والإجراءات. و(وزارة الثقافة والإعلام) استقبلت مسؤوليتها بالحلم والأناة، فلم تدع الأمور على ما هي عليه، ولم تغامر في التغيير، وإنما شكلت لجنة متنوعة التخصصات والاهتمامات، لتقديم تصور حضاري لما يجب أن تكون عليه الأندية، ولو أن الناقمين صبروا حتى تخرج التوصيات إليهم وتباشر الوزارة عملها الجاد - وفق ما تحصل عليه بعد الاستشارة والاستخارة - لكان ذلك أفضل من سلق الأندية وذويها بألسنة حداد.
والراصدون للتصديات والتحديات يسوؤهم ما يمارسه بعض الكتبة من تجريح ذاتي متعمد ظاهره الحرص على المصلحة العامة، وباطنه خلاف شخصي لا يجوز نقله إلى الصحافة، على أن طوائف أخرى من الكتبة يمارسون رياضة الكلمة، أو يحترفونها؛ فهي عندهم عمل وظيفي، لا بدّ من موضوع مثير أو كبش فداء بريء، فعيونهم على ما يثبت أقدامهم في العمل الصحفي لا على ما يجب، فهم كالصعاليك يضعون أيديهم على ما يقع تحتها متمثلين ما يحل باليد لا ما هو حلال، لا يفكرون فيمن يقولون عنه، ولا يعنيهم في أي واد هلكت الأندية والقائمون عليها، وإنما يفكرون فيما يقولون من حيث استكماله ضوابط اللغة وشرط المقال الصحفي. ومن الكتبة من يحترف الإثارة لقصد الجذب والكسب، ولأن الإثارة لون من ألوان الممارسة الصحفية المشروعة فإن لها قواعدها وأسلوبها، فليس كل إثارة محببة، وليس كل إثارة مجدية، وليس كل إثارة مقبولة، وحين تواجه الساخر المسف أو المثير التافه، لا يأسف على فعلته، وإنما يستعد لفعل مماثل، لأنه لا يخشى على مثمنات، ولا يحرص على مكتسبات. ومع أن الكذب ملتاث الحبال وقصيرها، إلا أنه كما الرصاصة الطائشة، إن لم تصب تشغل البال، وقديماً لم يستجب أحد الملوك لمن أنكر ما وصفه به شاعر هجاء بقصيدة: (مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه) بل قال:


(قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً
فما اعتذارك من قول إذ قيلا)

وليست الأندية الأدبية وحدها التي تعاني من حملات التأنيب والتأليب؛ فكل من لاقيت يشكو من الكتبة المبتدئين والكتاب المتحاملين، حتى لقد كدت أقول: (ليت شعري هذه الصحافة لمن؟)، ومع أن التعدي بالسوية يعده البعض عدلاً في الرعية، إلا أننا نود من النقد أن يكون معقولاً منصفاً، يسعى جهده لإحقاق الحق دونما إساءة تمسّ الظاعن والمقيم والمحسن والمسيء. ونحن إذ نقول قولنا هذا، لا نريد الكف عن النقد الموضوعي؛ فالأندية والظواهر والقضايا كافة لا يؤصّلها، ولا يشيعها، ولا يحرّر مسائلها إلا النقد، ومن ضاق به فليس أهلاً لتحمل المسؤولية، ولكن يجب أن نفرق بين النقد الموضوعي والتجريح البذيء. وفي النهاية فإن الاختلاف حول ما يثار ليس له علاقة في مشروعية النقد، وإنما هو في طرائقه وأساليبه وأخلاقياته وحدوده ومجالاته، ومن ناقش حول المشروعية فقد ضلّ ضلالاً بعيداً، والأندية الأدبية مع كل ما تواجهه من حملات لمّا تزل تؤدي دورها المنشود، وتعيش حضوراً فاعلاً، يتمثل بالندوات والمحاضرات والأمسيات والمطبوعات وحضور المؤتمرات والمشاركة في المعارض وتهيئة المكتبات والقاعات، وجهدها جهد المقل ومشيها وئيد، ولكنها حاضرة المشهد، ومن أنكر ذلك فليس من الحق في شيء، ومن بالغ في الثناء كمن بالغ في الذم، ومن دافع بالادعاء والتشيع سقط من عيون الناس، ومن الخير لمشاهدنا كافة أن تزن الأمور، وأن تعرف ما لها وما عليها، ولكي أطمئن من نال مني شخصياً أقول له ما قال عاشق لمعشوقته:


(هنيئاً مرئياً غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت)


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved