تمر المجتمعات بمراحل انتقال من حالة حضارية إلى أخرى، وقد يكون الانتقال من جزء في حالة حضارية، كأن تحدث نقلة نوعية اقتصادية كما حدث لمجتمعاتنا السعودية خلال الطفرة النفطية وبطبيعة الحال تتفاعل الأجزاء الأخرى، ويصاحب هذه النقلة الجزئية تداعيات لحالات أخرى وإرهاصات للجديد منها، كالحالة الثقافية والاجتماعية والسياسية. ونحن هذه الأيام إزاء استحقاق انتخابي بلدي يرسم آفاقاً واعدة لم تتشكل بعد، لكن يمكن تلمّس التفاؤل الكبير الذي عبّر عنه قطاع كبير من المثقفين والمهتمين بالشأن العام.
وتعد مشاركة المواطن في الشأن العام وصناعة القرار إحدى ركائز المجتمع المدني إضافة إلى الحقوق المدنية والحقوق الاجتماعية ومن هنا فإن أول منافع هذه الانتخابات هي تعزيز بوادر المجتمع المدني السعودي لمواجهة عقلية التطرف والاقصاء، ومن ثم دعم الجبهة الداخلية وترسيخ أسس الأمن الاجتماعي. كما أن هذه الانتخابات ستكون البداية الجادة للمواطن المسؤول عن القضايا العامة والتي كانت ملقاة على عاتق عدد محدود من المسؤولين الرسميين، إنها بداية النهاية لعقلية البصمة ونهاية مرحلة الاجتهادات الفردية. ذلك ان الفرد المسؤول في المجتمع المدني المعقّد التركيب والمتنوع الحاجات مهما كان عبقرياً ومتميزاً وفذاً، يصعب عليه الإلمام والإحاطة بتلك الحاجات، فلم تعد مجتمعاتنا بتلك التركيبة البسيطة والنوعية المتشابهة التي تمكّن أفراد قياديين من إدارة كافة متطلبات المجتمع الأساسية والكمالية.. ومن ثم لن يصبح المسؤول وحيداً في اتخاذ قرارات يجتهد فيها منفرداً ومتراوحاً بين الخطأ والصواب وكأنه في حقل تجارب..
وستتيح هذه الانتخابات فرصة أكبر للانفتاح وإشاعة روح الحوار وتبادل وجهات النظر المتفاوتة وربما المتنافرة، ولإدارة الاختلاف بين شرائح المجتمع وأطيافه المختلفة ليس عبر النقاش النظري أو الثقافي فقط، بل من خلال طاولة تنفيذ البرامج وإدارة المشاريع وتوجيهها، وتلمّس احتياجات الآخرين عن قرب وعبر الممارسة الفعلية والحوار المباشر مع أفراد المجتمع.
والانتخابات البلدية في نهاية المطاف بداية التمرين على التصويت والاعتياد على ممارسة العمل الديموقراطي أو الشوروي المستند على شرعية الأغلبية واحتياجاتها وتطلعاتها، واحترام حقوق الأقلية. وسيعي المواطنون عبر هذه الانتخابات مقدار الكسب أو الخسارة نتيجة مشاركتهم أو عدمها في التصويت، وستدرك أغلبية المواطنين المعايير المناسبة لمن تصوّت من المرشحين كل حسب برنامجه الانتخابي ومنهجه التطبيقي وسلوكه الأدائي فيما بعد..
على أن أغلب ما ذكرته من منافع وقيم إيجابية قد تتقلّص أو تندثر إذا لم يصاحب ذلك برامج توعية على المستويات التربوية والإعلامية والإعلانية.. ولابد ان تُوفّر الأرضية النظامية والتنظيمية المناسبة لإجراء انتخابات نزيهة وعادلة عبر الأنظمة الواضحة وعبر التوعية باختيار القادرين على العطاء وتحقيق التطلعات نتيجة كفاءاتهم ومشاريعهم وبرامجهم وليس على أساس شهاداتهم أو نخبويتهم أو نفوذهم أو انتماءاتهم (العشائرية أو الطائفية أو المناطقية..)، مع الاعتراف بحق كل ناخب أن يرشح من يراه وفقاً للمعايير التي يحددها هو كمواطن حُر وراشد.
الوضوح والشفافية بتنظيم هذه الانتخابات وكافة الأنظمة المرتبطة بالعملية الانتخابية من لوائح وآليات تنفيذ ومحاسبة، ضرورة أساسية لا محيد عنها للحصول على أكبر نفع ممكن منها.. فعلى سبيل المثال نجد في لائحة انتخاب أعضاء المجالس البلدية الصادرة من وزارة الشؤون البلدية والقروية والمنشورة في موقع الوزارة بالإنترنت، ونُشرت في الصحف المحلية عدم تحديد شروط الترشيح، بينما شروط الانتخاب محددة بوضوح مانع ناجز! فهل سقطت هذه المادة سهواً من المواد الاثنتين والثلاثين للائحة؟ هل هو خطأ فني وليس إجرائياً؟
كذلك تتردد منذ فترة إشاعات عن عدم مشاركة النساء في هذه العملية الانتخابية. وذلك أمر يدعو للدهشة، فرغم ان اللائحة واضحة في هذا الأمر باعطائه لكل مواطن، وتلك تعني لغة وعرفاً وتشريعاً كل رجل وامرأة. كما أن إبعاد المرأة السعودية عن الشأن البلدي يصعب فهمه في ظل ما حققته من انجازات وكفاءة عالية في شتى الميادين المحلية والدولية. فهل هي مجرد اشاعة؟ أم أن هناك مسائل إجرائية، مثل عدم توفر جهاز إداري نسائي لهذه المهمة، أو التعذر بقلة من يحملن بطاقة الأحوال المدنية، تجعل من الصعب أن تشارك المرأة في هذه الانتخابيات فقط مع حقها الكامل في المشاركة بالمستقبل؟ أم أن هناك توجهاً لتقييد مشاركة المرأة لموجبات أخرى لم يُعلن عنها بعد؟ الأمر يتطلب قدراً من الشفافية على الوزارة المعنية التصريح به.
غاية القول إننا إزاء عملية ثقافية واجتماعية ذات استحقاقات واعدة، لكن ذلك لن يؤتي أوكله إلا عبر وعينا أفراداً وجماعات ومسؤولين بأهمية هذه التجربة وما تزخر به من مكاسب، قد نفوّتها تهاوناً أو استخفافاً أو عجزاً.. فلنتفاءل بقدرتنا على الإنجاز!
|