في صباح يوم قائظ كان لدي سفر إلى الرياض.. صعدت سلم الطائرة لآخذ مقعدي المسجل على كارت الصعود.. أوقفني عند الباب شاب يرتدي بدلة بيضاء مازال عالقاً بقسمات وجهه بقايا نوم لم يرحل.. طلب مني أن أطلعه على تلك الورقة الصغيرة التي بقيت معي بعد أن أخذ موظف الخطوط عند آخر باب خرجت منه أكثرها.. أبلغته برقم المقعد الذي سأجلس فيه.. لم يقبل بذلك وأعاد الطلب وبلغة أخرى.. كان واقفاً في أول الممر حتى لا ألج بلا استئذان.. أمسك الورقة بيده وسار أمامي إلى أن وصل إلى المقعد المكتوب بالرقم والحرف اللاتيني.. رمى بما أخذ مني على المقعد.. جلست حيث رمى.. كان السؤال الذي يراودني.. هل ما قام به هذا الشاب من باب التقدير، أم إنه عدم ثقة بأنني لن أجلس في مكاني المخصص، أم إن الأمر لا هذا ولا ذاك وإنما قرأ في ملامحي أنني لا أعرف فك الحرف والرقم.. أخذت مكاني المدون أدناه.. طلبت منه قبل أن ينصرف إحدى الصحف أقلب صفحاتها قبل الإقلاع، وكان الجواب وبهدوء وثقة ستمر العربة وستحصل على ما تحتاج.. جلست أمني نفسي.. أسليها انتظاراً للعربة.. طال الانتظار ولم أجد بداً من أن أقلب ناظري في وجوه الركاب وهم مقبلون ليأخذوا أماكنهم يصحبهم صاحبنا وقطعت الورقة البيضاء بيده.. كنت أراقب ما يجري من أحداث.. امرأة بلا محرم يبحثون لها عن مقعد بجوار امرأة أخرى.. رجل من باكستان يبدو أنه سيسافر إلى أهله علامة ذلك حسن ملبسه، وابتسامته العريضة التي تنم عن ارتياح وأمل، والجمع من الباكستانيين الذين ملأوا صالة المطار لوداعه بحرارة، أما رابع هذه العلامات تلك الحقيبة الكبيرة الثقيلة التي حاول تعسفاً أن يحملها معه على أنها حقيبة يدوية صغيرة هروباً من العفش الزائد.. جمع من النساء يبدو إنهن عاملات في منازلنا سيرحلنا إلى ديارهن عبر الرياض.. وأحزنني صورة أولئك الرجال والنساء الذين جئ بهم على عربات تدفع وحملوا عند أول عتبات السلم ليوضعوا في مقاعدهم على متن الطائرة، بجوارهم مرافقوهم، جاءوا جميعاً من أجل حضور موعدهم اليوم في إحدى مستشفيات العاصمة الرياض وسيعودون عند المساء، اكتمل الجمع.. مر صاحبنا على الجميع ليؤكد على قائمة المحاذير الأربعة والتي أعرفها جيداً (الطاولة.. المقعد.. الحزام.. الجوال)، كان خلفه عربة تدفع عليها كم متراكم من الصحف.. كنت أرقبها فرحاً فقد طال الانتظار، كان ذلك الدفاع يسأل الركاب عن حاجتهم، ولكن جلهم يعرض عنه ويمد يده ليأخذ من كل جريدة نسخة وربما اقتصر على ثلاث.. كنت أنظر إلى الأيدي وهي تتسابق لأخذ ما استطاعت من الصحف المتراكمة على أعلى العربة بل ومن أسفلها بلا رادع أو حياء.. وصلت العربة عندي فتنفست الصعداء.. طلبت ما أردت.. وكان الجواب (ما تراه لا ما تسمعه)، لا يوجد إلا الصحف التي غالباً لا تقرأ إلا عند الضرورة القصوى!!، ولما؟؟ لأنك تقطن منطقة متوسطة وقد نال السبق من جلس في المقاعد الأمامية أو حتى في الصفوف الأولى من الدرجة السياحية.. لم أقبل بهذا العرض وأبديت رغبتي بأن يبحث لي عن نسخة من الجريدة التي طلبت.. أما جاري فقد رضي بما قسم له.. ومن خلفي صفوف أخرى كثيرة كان نصيبهم صحف أجنبية وربما أخذوها ليقرءوا لغة الصورة بالحرف الآخر.. أما من جمع عليه غربتين (المكان والحال) ممن كان قدره الصفوف الأخيرة فلن يجد شيئاً ولن يحصل على ما يريد ولذا يدير غالبهم الشماغ على وجهه وينام، يذكرني فعله هذا بصنيع الكسالى والعاطلين الذين يقبعون في خانة البطالة..
سألني جاري لما لاحظ تضايقي متعجباً!! لماذا لا تكتب خطاباً إلى الجهات ذات الاختصاص.. ضحكت بلا إرادة وبصوت مسموع.. تعجب!! من هذا الرد الساخر على هذا التوجيه المنطقي المفكر فيه.. استدرك قائلاً لا عليك يا صاحبي إذا كنت لا تجيد فن كتابة المعاريض والشكاوى فأن أتكفل بذلك.. أنا متخصص بهذا، اليوم أنا برحلة إلى الرياض لتقديم شكوى على.. وكان الجواب مني.. لا ليس الأمر كما ظننت.. أنا أجزم بأن من يملك القرار قد أكد على وجوب توفير ما يحقق المعرفة والرفاهية للجميع على قدم المساواة وحث وتابع ونص في مناسبات عديدة على وجوب تحقق عدالة التوزيع متى ما تساوت الدرجة وإن تباينت الأماكن ونأت الكراسي، ولكن ما حصل هو بسبب عدم اكتراث من يدفع العربة إلى الأمام غالباً، ولو وجد الركاب الحزم ولمسوا عدم التساهل لم يمد أحد يده إلى العربة بغير حق ولنال كل منا حاجته.. أعرض عني لا أعرف لماذا؟! التفت عنه ورحلة بعيداً.. جال في خاطري عربة أخرى شبيهة بعربة الطائرة، أراها، أسمع عنها، ألمح انعكاساتها، أبصر وقعها، تقابلني كل يوم في شارع الحياة.. إنها عربة التنمية.. قطع علي جاري حبل أفكاري.. يسألني أين وصلت؟؟ قلت له أفكر بعربة التنمية والصفوف الخلفية.. قال وماذا تقصد بقولك هذا من أجل أن أشكو فيه برقية لصاحب الصلاحية؟؟ وكان الرد ببساطة (أعد قراءة الحدث مرة أخرى بعقلية تفكيكية تحليلية تعرف ما عن في خاطري يا صاح..).
|