يقول الدكتور علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري): (أن الإنسان كلما ازداد تجوالاً في الآفاق واطلاعاً على مختلف الآراء والمذاهب انفرج عنه إطاره الفكري الذي نشأ فيه، واستطاع أن يُحرِّر تفكيره من القيود قليلا أو كثيراً. وكلما كان الإنسان أكثر انعزالاً كان أكثر تعصباً وأضيق ذهناً).
ومثل هذا القول كثيراً ما نسمعه أو نقرأه عندما يأتي الحديث عن التزمت والمتزمتين، على اعتبار أن التزمت هو نتيجة للانغلاق وضيق الأفق، وأن الانفتاح والاطلاع في المقابل هو أفضل علاج يمكن أن يوصف لهذه الظاهرة.
والسؤال: هل هذه النظرية صحيحة؟
أنا لا أرى أن التعصب والتشدد دائماً نتيجة للانغلاق وضيق الأفق الوعوي أو المعرفي؛ صحيح أن التزمٌّت قد يكون نتيجة للانغلاق في بعض الأحيان, غير أنه ليس بالضرورة كذلك؛ بمعنى أن التعصب ليس دائماً نتيجة مؤكدة وقطعية سببها وباعثها الانغلاق وضيق الأفق.
فأبوالأعلى المودودي - مثلاً - هو شيخ المتعصبين والمتزمتين المعاصرين، ومنظرهم، وإمامهم الأول: ومع ذلك لا يمكن - إطلاقاً - أن نعتبره منعزلاً عن ثقافة عصره، أو محدود الاطلاع، أو ضيق الأفق. وما ينطبق على المودودي ينطبق على سيد قطب، وقبله حسن البنا، وعلى كثيرين من أساطين وغلاة المتزمتين الإسلاميين المعاصرين.
وكثيراً ما نصادف متزمتين شباباً درسوا في الغرب، وتعايشوا مع مدنيته، واطلعوا على شتى معارفه، وتعلموا في أكبر مؤسساته العلمية، ومع ذلك نجدهم في تفسير النصوص المقدسة، وفهمها، وتحميلها ما لا تحتمل، في منتهى الغلو والتطرف.
لذلك، فأنا ممن يذهبون إلى أن (التعصب) هو حالة نفسية مرضية, ليست بالضرورة نتيجة للانغلاق والتقوقع بقدر ما هي إفراز لمزاج نفسي عصابي مريض. فالمتعصب يرى أنه يمتلك الحقيقة، وأن رأيه هو الحق بعينه، ورأي غيره هو الخطأ بعينه؛ وكأن الله جل وعلا خصَّ هذا الإنسان وعصبته بالنجاة من النار, بينما ترك بقية العالمين في ضلال مبين ومأواهم جهنم وبئس المصير!.
والإنسان المتزمت لا يمكن أن يخضع للمنطق، ولا للعقل، ولا للحوار؛ إذا اختلفت معه فأنت عدوه اللدود، وإذا لم توافقه على ما يذهب إليه فأنت الضال المُضِلّ الذي يجب أن يخشاك الناس خشيتهم من الأوبئة. لذلك فالمتعصب لا يؤمن - إطلاقاً - بحق الآخر في الاختلاف معه؛ لأنه يؤمن إيمانا قاطعاً أن قواعده وقياساته واستدلالاته المعيارية مواكبة ومؤدية للنتائج التي يصل إليها. أي أن الآلية التي يقيس عليها الحقيقة هي ذاتها لا يأتيها الباطل إطلاقاً، وبالتالي فإن كل إفراز لهذه الآلية هو الصواب بعينه؛ وبذلك فالعالم في معاييره وتبعاً لهذه الآلية قسمان لا ثالث لهما: إما معي أو عدوي!.
والنص في نهاية المطاف حَمَّال أوجه، غير أن المتزمِّت يرتاح، ويجد انجذاباً، إلى حمله على المحمل الذي يجد فيه تنفيساً لكرباته وأزماته وضغوطاته النفسية المريضة، حتى لو لم يكن المعنى يحتمل ما يذهب إليه تفسيره، أو انه احتمال بعيد لهذا النص. فمثلاً: هناك حديث منسوب إلى الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: (لقد جئتكم بالذبح) طالما قدمه الإرهابيون كدليل على أن الإسلام دين يقوم ويتمأسس على العنف والدم والذبح، اسمع ماذا يقول الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى في الأزهر سابقاً، وعضو مجمع البحوث الإسلامية حول هذا الحديث: (وما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة قبل الهجرة (أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح) كما رواه الطبراني - فهو حديث ضعيف يرده العقل والنقل، أما الأول فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يصرح بذلك في بدء الدعوة وهو منفر لها لا مرغب فيها؟ وكيف يقوله وهو ضعيف لا يستطيع حماية نفسه فضلا عن حمايته لأتباعه القلة؟ ولماذا تركته قريش وهم يعلمون ماجاء به من الذبح ليحقق ما يريد، ولم يتغدوا به قبل أن يتعشى بهم؟ وأما الثاني فلمنافاته لآية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء، وحديث (إنما أنا رحمة مهداة) رواه الحاكم والطبراني، وما يماثله من نصوص وأحداث تدل على رقة قلبه وعظيم رحمته. ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم متعطشاً للدماء، وبخاصة من قريش، ما عفا عنهم عند فتح مكة وهو القادر على الانتقام منهم).
كل ما أريد أن أقوله هنا هو أن (التزمت) مرض نفسي له علاقة بالشخص وبتركيبته النفسية، لا بثقاقته واطلاعه ووعيه او علمه؛ وبالتالي سواء ثقفت هؤلاء المتزمتين، وسعيت إلى تنمية وعيهم ومداركهم أو تركتهم، فسيبقون كذلك دائماً.
|