ترفرف أرواحنا في سماء مكة وكأن الملائكة تحفنا حضوراً.. لم تتغيّر مكة ولكننا بعواطفنا نحوها نتغيّر ونراها في كل زيارة (مكة غير)، هي البلد الوحيد الذي ما إن أشعر أنني في ساحته وبين حدوده إلا ويتشبعني شعور جميل جداً وتحفني الروحانية التي تجعل قلبي يعانق نفسي ويصالحها بعد عمر مديد من التعب والجهد وقلة الراحة.. لمكة طعم خاص خصوصية زمزم وهو ينساب من الرأس حتى القدم نبتهل إلى الله ونحن ننعم ببرودته أن يجعله لما شُرب له.. تركض الخطى مع كثير من الأنفاس.. تتسابق مع النداء الأول للصلاة حتى نتمكن من أخذ أماكننا في الصدارة قريباً من الكعبة المشرفة التي يطوفها الناس من كل فج عميق يختلفون في الأشكال واللغات ومسقط الرأس ويتفقون جميعاً على أن الله جلَّت قدرته قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.. وتلك الحمامات المحلِّقة في كبد الحرم تجوب الفضاء بسكينة ووقار ترتفع لها رؤوسنا وتسبح بحمد ربها تعجباً!! نركض سعياً بين الصفا والمروة ونتذكَّر أُمنا هاجر التي كانت تمتطي صهوة أقدامها بوادٍ غير ذي زرع حتى تفجَّر لها من الأرض ينبوع وأصبح مكاناً يقصده المسلم ليجد في نفسه مساحة عظيمة لا يجدها في كثير من البلدان.. نبكي ونحن في زحمة هذه الذكرى ونشعر أن أرواحنا تحلِّق مع تلك الحمامات تصعد إلى بارئها تسجد عند عرشه.. تتمتم بعظمته.. تنسج من قواعد اللغة منظومة عظيمة من الشكر والعرفان والتوبة والندم.. في مكة يحضرنا كل شيء ويغيب عنا بعض من شيء.. نتذكَّر أحبتنا الراحلين ولا نحزن.. نؤمن أنهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، لا نملك لهم في هذا الفناء إلا دعوات صادقة تخرج من الأوردة وتطوع القلب واللسان لها كأننا لا نذكر شيئاً يربطنا بهذه الدنيا الفانية واننا نؤمن بالزوال ونسارع إلى كسب الوقت ونلهج بالدعاء.. في مكة لا نرى إلا أيادي تُرفع ولا نسمع إلا أذاناً يجلجل ونداءات ملؤها التقوى والانصياع بالطاعة.
في مكة نجد المولى جلَّت قدرته في كل الشعائر فنعبده كأننا نراه ونخشاه فهو معنا.. ونثق به لأنه عند حسن ظن عبده فيه.. وللصلاة في محراب الحرم مذاق خاص وشعور جميل.. تنظر إلى الوجوه من حولك، وتكبر الأسباب والدوافع التي جمعت هذه الأمة التي لا يُحصى عددها في مكان واحد.. في مكة كل شيء له تقدير وإكبار إلى حد تجد في نفسك إجلالاً لعمال النظافة داخل الحرم وتكبر عملهم هذا، وتجد في نفسك تقديراً لهذه المهنة الشريفة في مكان شريف فلا تبخل عليهم بالصدقات والدعوات.. حتى امرأة الأمن التي لا نشعر بوجودها بيننا إلا حينما تقبض على سارقه أو مخالفة وتسحبها بعيداً عن هذه البقعة الطاهرة.. حتى ذلك القابع عند بوابة الحرم وتلك التي تفتش حقائبنا من أجل الأمن لهم جميعاً في نفسي احترام بالغ وأجد في عملهم المشرف إحساساً بالفخر وشعوراً بالأمان.. نساهم معهم في مسؤولياتهم ونفتح حقائبنا قبل أن نصلهم تسهيلاً لمهمتهم، ونهمس في آذانهم بأي معلومة قد تفيدهم.. هؤلاء جنود عظماء ساهموا بكل عزم في هذه الروحانية التي تتسلل مع صوت الإمام في صلاة الفجر فتجعلنا نجهش بالبكاء.
|