|
انت في
|
* الجزيرة - خاص :
ولما سمع صلى الله عليه وسلم ذلك بكى، وأخذ بتلابيب الابن وقال: (أنت ومالك لأبيك).. وهذا آخر طاعن في السن يدخل المستشفى وهو على فراش المرض، ويعاني من مرارة العقوق والحرمان، ويقول: لقد دخلت هنا منذ أكثر من شهر، والله مازارني أحد من أبنائي وأقاربي، بل تعدى الأمر إلى ماهو أفظع من ذلك، فهذا مأفون لما بلغت أمه من الكبر عتيا، تبرم وضاق بها ذرعاً، فما كان منه إلا أن أمر الخادمة فأخرجتها خارج المنزل، لتبيت المسكينة على عتبة الباب، حتى يحسن إليها الجيران من الغد، وهذا آخر يطلق النار على أبيه فيرديه قتيلاً من أجل مشادة كلامية، أي جريمة ارتكبها هؤلاء العاقون في حق أعز وأقرب الناس إليهم؟! ويحهم على قبيح فعالهم حتى لكأن قلوبهم قُدت من صخر أوهدت من صلب. أين الرحمة والمروءة؟ وأين الرحمة عند هؤلاء والديانة؟! بل أين المروءة والإنسانية؟! وإذا كان هذا في حق الوالدين، فما بالكم بموقف هؤلاء من الأقارب والأرحام؟! {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}. ويضيف السديس: ومما يؤسف له أن الحال وصل ببعض الناس ان امتلأت قلوبهم غيظاً وحقداً على أقاربهم وذوي رحمهم، فيقاطعونهم، بل يعادونهم ويخاصمونهم بل يقاضونهم، ويتمنون لهم الموت الزؤام من أجل أمر تافه حقير، يتعلق بحفنة من الحطام، أو وشاية غر لئيم، أو زلة لسان، أو شجار بين الأطفال، وهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}. وهذا التفكك يرجع بالأساس إلى ضعف التدين في قلوب كثيرين، والجهل بالشريعة، وطغيان المادة، فضعفت أواصر التواصل، وتعددت مظاهر القطيعة، وإلا فلا تكاد فضائل الصلة وآثارها الخيرة تخفى على العاقل اللبيب، فهي صفة أهل الإيمان {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}، وهي ثمرة من ثمار الإيمان بالله واليوم الآخر، خرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)، وهي سبب للبركة في الرزق والعمر، يقول صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)، مخرج في الصحيحين من حديث انس رضي الله عنه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لك)، وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة قاطع)، قال سفيان: يعني قاطع رحم رواه البخاري ومسلم. المبادرة السريعة ويطالب السديس كل قاطع رحم أن يبادر بالصلة قبل فوات الأوان، فيقول: لا أظن أن أحداً يعذر في ذلك بعد خدمة الاتصالات الحديثة، فرحم الله عبداً يصل رحمه وإن قطعوه، يتعهدهم بالزيارة، ويتخولهم بالهدية وإن جفوه، يقول صلى الله عليه وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون لي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، قال صلى الله عليه وسلم: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملء، ولايزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك). ولاشك ان علاج هذه الآفة يبدأ بإصلاح النفوس بالخوف من الله ومراقبته، واستشعار معيته وتعظيم امره ونهيه في ذلك، وتربية النفوس على التكافل والإحسان وحفظ اللسان والتثبت عند إطلاق الشائعات، والحذر من الغضب، وكظم الغيظ، والسعي في الإصلاح مع الصبر والتحمل والعفو والتجمل واليقين بأن قوة الأمة إنما تكمن في تماسكها وترابط أبنائها. فضائل صلة الرحم من جانبه يعدد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله العمار وكيل وزارة الشؤون الاسلامية لشؤون المساجد والدعوة والإرشاد فضائل صلة الرحم، فيقول: إنها شعار الإيمان: قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)، وهي سبب لزيادة العمر فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يمد الله في عمره ويزيد في رزقه، فليبر والديه، وليصل رحمه)، كما أنها سبب لدخول الجنة: فعن أبي أيوب خالد الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)، وهي كذلك تدل على رسوخ الفضيلة: فهي دليل كرم النفس، وسعة الأفق، وطيب المنبت، وحسن الوفاء، وصدق العشيرة، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مازلت أحب بني تميم منذ ثلاث سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم، سمعته يقول: (هم أشد أمتي على الدجال)، قال وجاءت صدقاتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه صدقات قومنا)، وكانت سبية منهم عند عائشة فقال: (أعتقيها فإنها من ولد اسماعيل)، وفي هذا وفاء من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لقومه في قوله (قومنا) وفي دعوته السيدة عائشة رضي الله عنها في عتق السبية وقياماً بحق القربى، كما أن صلة الرحم سبب في تعجيل الثواب في الدنيا وعظيم الجزاء في الآخرة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أطيع لله أعجل ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم). ويضيف العمار: ومن صلة الرحم بر الوالدين، والإحسان لهما، لقوله سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ويقول سبحانه وتعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}، كما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: (أحي والدك؟ قال: نعم، فقال: ففيهما فجاهد).. كما أنه ليس من صلة الرحم بالنسبة للوالدين طاعتهما في معصية الله، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (لاطاعة لمخلوق على معصية الخالق). قطيعة الرحم وحول الآثار السلبية لقطيعة الرحم يقول الشيخ العمار: قطيعة الرحم تؤدي إلى مفسدة عظيمة في أي مجتمع، لأنها تفكك روابط المجتمع وتجعل كل أسرة تعيش حياة مستقلة عن الآخرين، وهذا ما يمزق وحدة المجتمع، ولذلك فقد توعد الإسلام الذين لايصلون أرحامهم باللعنة وسوء الدار، يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع رحم)، بل إن قاطع الرحم ملعون في كتاب الله، يقول سبحانه وتعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}. كذلك فمن آثارها ضيق العيش وتعاقب النكبات في الدنيا والعذاب الشديد يوم القيامة، فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أن يؤجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره الله له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم)، والإسلام سما بمنزلة الصلة، فلم يجعلها حبيسة في المجال المادي تقوم على المنافع بين القريب وقريبه، فإنها حينئذ تهبط على مستوى الكمال ما دام الباعث عليها مجرد التكافؤ في البذل والأعطيات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)، وأبلغ دلالة على عناية الإسلام بالرحم أنه يأمر بصلتها حتى إن كانت مشركة، تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: قدمت على أمي وهي مشركة، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفأصل أمي؟ قال: نعم صلي أمك)، وثبت الإسلام الإرث بالقرابة وأكد على أن الأولوية في التوارث لأولي الأرحام، يقول سبحانه وتعالى: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، كما أكد على حق صلة الرحم في الانفاق، يقول سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}. صلة الرحم.. كيف؟ ويسرد الشيخ العمار أموراً تعين على صلة الأرحام، منها: - التفكير في الآثار والفضائل المترتبة على الصلة، فإن معرفة ثمرات الأشياء واستحضار حسن عواقبها من أكبر الدواعي إلى فعلها والسعي إليها. - الاستعانة بالله، ومقابلة الإساءة بالإحسان، وقبول أعذار الأهل عند الخطأ. - توطين النفس على الرضا بالقليل من الأقارب، وكذلك مراعاة أحوالهم وفهم نفسياتهم، وإنزالهم منازلهم. - ترك التكلف مع الأقارب ورفع الحرج عنهم، وتجنب الشدة في العتاب. - تعليمهم أمور دينهم وحملهم على الطاعة، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}. القطيعة باب للفساد المجتمعي أما د.محمد بن عبدالله الخضيري الأستاذ المساعد بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم فيقول: إن رحم الإنسان هم أسرته وقرابته، وهم عدته وسنده، هم أصله ومنبته، ومن هنا فقد أوصى الله المؤمنين بالصلة والاتصال، وجعل قطع الرحم من قطع ما أمر الله به أن يوصل، وذلك باب إلى الفساد والإفساد، ونكران الجميل وتناسي المعروف، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}، ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}، وما أمر الله بتوحيده ونهى عن الإشراك به، إلا وقرن ذلك بالإحسان إلى الوالدين والأقربين، كما في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وقال: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ...}. |
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة] |