في حديث قديم لي مع أحد الأصحاب المولعين بالديمقراطية الغربية المعجبين بما حققته للفرد الغربي من حرية ورفاهية، ولحماس يبديه في تمني أن تدعم القوى الغربية ترسيخ المفاهيم الديمقراطية في البلاد العربية ولو بالتدخل العسكري إن لم تفلح الضغوط السياسية، وبالرغم من محاولاتي المتكررة معه وبأسلوب أحسبه يكتسي بالموضوعية والبراهين التاريخية الواقعية من أجل تخفيف هذه القناعات المفرطة في الوهم، بأن أبين له في المقام الأول أن هذه القيم الديمقراطية وإن تضمنت في بعض جزئياتها شيئاً إيجابياً إلا أنها في مجملها لا تناسب بيئتنا وقيمنا، وأن لدينا من القيم والقواعد المثلى ما لو طبقناها بحق لحققت للفرد والمجتمع ما يصبو إليه من حرية ورفاهية، ثم أمر آخر وهو أنه حتى لو سلمنا جدلاً بمحاسن قيمهم الوافدة فإنهم لن يرضوا لنا بالاستفادة منها كما هو لديهم بل سيعملون لتطبيق الجوانب التي تخدم مصالحهم فقط، هذا إذا حسنت نواياهم، وإلا فإن التاريخ القديم والحديث يدل دلالة قاطعة على أنهم يدعمون كل سبيل يقهر الشعوب الأخرى بهدف السيطرة عليها وسرقة ثرواتها. صحيح أنهم وبفعل تطورات تاريخية متتابعة قد رسخوا في مجتمعاتهم مبادئ ديمقراطية رغم مساوئها حققت لهم قدراً من الحرية والرفاهية التي يشوبها الصراع الطبقي والخداع الإعلامي والانهيار الأخلاقي بفعل الانفتاح المطلق في هذا الجانب، إلا أنه لا يمكن القول إن ما لديهم يمكن أن يكون مثالاً يحتذى لنا في جميع الأمور. ليس مرادنا من هذا الدعوة للانغلاق وعدم الاستفادة من الآخر في جوانب سبقنا إليها، لكننا ندعو إلى أن يكون منهجنا قائماً على الانتقاء الواثق بعيداً عن الذوبان في حضارة الآخر بشكل يجعلنا نفقد مقومات وجودنا واستقلالنا.
ومع تتابع الأحداث خلال الهجوم على العراق وضرب كل مقومات الحياة الإنسانية فيه بكل أنواع الأسلحة الفتاكة دون رحمة للشعب العراقي المقهور، وما صاحب ذلك من تعتيم إعلامي مفضوح محاولاً إخفاء الوجه الكالح القبيح لهذه الحضارة المتوحشة التي استغلت ما تفتق عنه العقل البشري في الصناعة التسليحية لإهلاك الإنسان الآخر ليس لسبب إلا لأنه من حضارة تخالفهم في المعتقد والمنهج مع رغبة جامحة في السيطرة والاستحواذ بدوافع دينية واقتصادية ظاهرة أثبتتها مواقفهم وتصريحاتهم وما تخفي قلوبهم أكبر، ثم تتابعت الأحداث وانكشف الخداع بشكل لم يعد بالإمكان التكتم عليه فلم يعثر على أسلحة دمار شامل ووجد أن النظام العراقي قد صور وكأنه قوة كاسحة، ثم تبين أنه نمر من ورق رفع شأنه لغاية مدروسة، وبرغم تغييب جزء كبير من الحقيقة إلا أن ما ظهر يعد كافياً لكشف زيف هذه الحضارة المادية البائسة التي سلطت جام قوتها وظلمها على أمة الإسلام دون هوادة، حتى أن المتابع للأخبار يتصور أنه لا يوجد على هذه الأرض أمة تذبح بهذه القسوة مثلما يحدث لأمتنا ولولا البركة لفنيت هذه الأمة بفعل هذه المجازر المستمرة في كل مكان وكله باسم نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان! صحيح أن ضعفنا وتشتتنا أغراهم علينا لكن العوامل والأطماع الذاتية التي ينطلقون منها هي الدافع الرئيس وراء كل هذا الهجوم المتواصل.
ليس قصدي من هذا السرد التاريخي للأحداث فهي من التعقيد والاتساع بما لايمكن الإحاطة به في مقال ولكن أردت بيان زيف هذه الحضارة التي طالما تغنى عشاقها بمبادئها الديمقراطية التي زعموا طويلاً أنها تحمي حقوق الإنسان وحرية الفرد وتبشر الشعوب بالرخاء والرفاهية، وهاهي الأحداث المشاهدة في العراق وفلسطين وأفغانستان وغيرها وما حصل من فضائح وفظائع في سجونهم في أبو غريب وغونتناموا وما خفي كان أعظم كلها شاهد حيّة على أن هذه الحضارة المادية مهما قيل عنها فهي حضارة تؤمن بالقوة المجردة من كل بعد أخلاقي، وهي امتداد للصراع الحضاري التاريخي الذي وللأسف ننسى أبعاده ومراميه ونمعن في خداع الذات بما يخدم العدو ويسهل له تنفيذ مخططاته وبما يزيد من ضعفنا وهواننا ويوهن في تماسك قوتنا بخلافات شكلية وطروحات غريبة أقل ما يقال عنها إنها لا تنم إلا عن سذاجة عقلية وضحالة فكرية، وإلا فإن ما تحققه من خدمات للعدو يجعلها في دائرة اتهام أكبر من أن تكون كذلك.
صحيح أن هذه القوى الغربية المتنفذة واقع ينبغي أن نتعاطى معه بما يحقق لنا المصالح ويدرأ عنا الشرور وفق سياسة شرعية حكيمة نجد أسسها وقواعدها في مبادئ العلاقات الدولية في الاسلام، خاصة في هذا الزمن الذي لايمكن لأي مجتمع مهما كان غنياً بحضارته وقدراته البشرية والمادية أن يعيش بمعزل عن العالم حيث إن التعاون والتبادل كانا ولا يزالان أساسي التعايش الطبيعي بين الأمم والشعوب، لكن أحداث التاريخ الماضي والحاضر علمتنا أن أي أمة تفقد هويتها وتتبع سنن الآخر تضعف وتضمحل مهما بدا لها من أول وهلة أنها تسلك طريقاً رشيداً. فحري بنا ونحن نعيش في وضع استثنائي عصيب أن نستمسك بكل عوامل القوة المتمثلة في قيمنا ومبادئنا وأن نرسخ لدى الأجيال أهمية الحفاظ عليها وعدم التفريط بها مع وحدة في الصف وتعاون على الخير بعيداً عن المزايدات التي تصطاد في الماء العكر، فالطريق سالك وسهل المركب لمن وفق في ارتياده، أما من تلهى ببنيات الطريق فستضيق به السبل ولابد ولكن بعد عثرات وكسرات في زمن قد لا تنفع معه ساعة رجعة، والعاقل من وعظ بغيره.. والله الموفق.
ص.ب 31886 الرياض 11418
فاكس: 4272675 |