Thursday 26th August,200411655العددالخميس 10 ,رجب 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "سماء النجوم"

حقيبتي العذبة حقيبتي العذبة
قصة: فاطمة العتيبي

كنت أرسم على شفتي بعضاً من ابتسامة، ويغفر لي اختفاء بعضها الآخر، مجهودي الكبير الذي بذلته البارحة، كانت الحقائب والأكياس التي أعددتها مرهقة وكنت أعلم قبلها أن الانتقال الى بيت جديد يحتاج إلى جهد نفسي وجسدي.
وكثيراً ما نجحت في بذل المجهودات الجسدية، لكنني أفشل أيضا كثيراً في مسألة المجهودات النفسية..
انتقلنا إلى بيتنا الجديد.. وكان أجمل.. وأرقى أثاثاً.. يختلط فيه البنفسجي بالأبيض.. فتتحول.. فتتحول جدرانه إلى مرايا خافتة منقوشة بالورد الأزرق والأغصان البيضاء.
جلست استريح.. أعبئ في داخلي مساحات فارغة, لم يملأها هذا المكتب الأنيق الذي أجلس إليه، ثمة توق يعتريني لمكتبي (البني) الذي كتبت فيه أجمل أوراقي، وذاكرت عليه سنوات الجامعة وأسقتني أمي عليه أكواب الشاي.
وإليه جلس أخي كثيراً يسمعني النكات الخفيفة يريحني فيها من عناء المذاكرة.. هناك حول مكتبي وعلى مقربة من نافذتي، بذور كثيرة لم استطع جلبها, لأحلام كثيرة كنت أظنها ستنمو سريعاً لكنني لم أدر أن ثمة موتاً مؤقتاً يصيب الأحلام في مهدها.
حزن يمتطي هوة واسعة من أنحاء قلبي، كلما ران في ذاكرتي بيتنا الذي عشت فيه شطراً عذباً وجميلاً من حياتي. الآن.. تستيقظ في ذاكرتي صورة أبي ودمعته التي أطفأها سريعاً بطرف (شماغه).. حين فارق بيته الذي جصص جدرانه وعلق أسلاك كهربائه، والحارة التي رسم خطوط طرقاتها، والطين الذي بلل حذاءه.. وكنت حينها سعيدة بالرحيل من حارة البيوت المتحاشرة, وعن الشارع الضيق الذي اختفت بناته بسرعة!!
وأطرق باب مريم.. فيقولون: مريم (تخفرت) ماعادت تطلع؟!
ومنى.. وفاطمة.. وفريدة.. وهدى.. الأبواب تغلق.. والبنات يختفين!
كرهت الطين.. والأبواب المغلقة, وبدأت أسر لأمي بأن ثمة رغبة في توديع الشارع باتت تنتابني.. فالبنات اختفين.. والوحدة في شارع الطين تقتل..
كانت جدران بيتنا الجديد مطلية بالبيج، وأبوابه بيج أيضاً مؤطرة ببني غامق، والستائر من المخمل البني.. والمطبخ كان بنياً داكناً محلى بمقابض بيج أيضاً، كان جميلاً.. وكنت أحب الشجر الذي تنامى في مقدمته.. وثمة مشاعر دافقة نمت في قلبي ناحيته، وذكريات رافقتني في مراحلي الدراسية، وأحلام طوال استقرت في غرب القلب، وخرج بعضها وتنفس الهواء، وما زالت ثمة أحلام تتوق للانبجاس.
آخر اجتماعاتنا العائلية تمخضت عن قرارات عقلانية جافة.. فيها من جفاف العصر ما أكره.. على كل فرد ان يأخذ معه أشياءه المهمة. فلا يرغب بنقل الأشياء الهامشية, ورفعت يدي معترضة: ومن يحدد أهمية الأشياء؟
فقيل: مجلس العائلة!
لملمت بعضاً من قلقي وتركت المكان ناحية غرفتي.. كانت متخمة بالأشياء التي لا بد أن يراها مجلس العائلة، أشياء لا ترتقي إلى الأهمية التي تدخل فيها المنزل الجديد!
الذكريات.. الأحلام.. الأوراق الممزقة.. الحبر المنسكب بفوضوية على ورق كثير.. قصاصات الصحف القديمة، ودواوين الشعر الصفراء.. ومجاميع القصص المهترئ ورقها.. وثمة أساور واكسسوارات.. وزجاجات عطر ثمينة.. وشنط صغيرة وأحذية.. وفساتين معلقة برف الدولاب.. أشياء تتبدل.. وتتغير.. أستطيع أن أقتني بديلاً عنها في ليلة تسوق..! لكن أشيائي الأخرى.. أحلامي.. ذكرياتي.. أوراقي.
قررت أن أجلب حقيبة كبيرة وأحشرها فيها جميعاً.. كان يوماً مرهقاً.. لم أتخل عن قصاصة ورق واحدة.. ولا عن جزء صغير من حلم نقي تنامى في قلبي.. فكانت حقيبة ضخمة.
استعنت بمجلس العائلة.. ليعين لي من يعينني على حملها.. لكن الكل اعتذر بمشغولياته الخاصة.. لجأت لمؤسسة نقل العفش.. فاعتذرت الواحدة تلو الأخرى.. بأن عمالها لا يحملون هكذا حمولات تافهة ولا تغطي تكاليف حملها!
اعتصمت بغرفتي وأضربت عن المشاركة في مجالس العائلة, إلى أن لبيت مطالبي.. فكان أن وصلت حقيبتي العذبة إلى غرفتي الجديدة قبل أي شيء آخر.. قبل أدوات زينتي وقبل أساوري.. بل قبلي أنا..
كانت ثمة أشياء أخر لا يفيد الاعتصام والإضراب في نقلها.. لأنها لا تأتي.. لا تنتقل.. ومن أجلها يختفي بعض من ابتسامتي.. وبعضها الآخر ما زال مرسوماً ببرودة على شفتي.
لكن مجهودي الذي بذلته ليلة البارحة يوحي لمن حولي أنه السبب في اختفاء بعض ابتسامتي الآخر.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved