جاء في كتب السير (وكان أبو حنيفة ينتقد أخطاء ابن ابي ليلى نقداً أوغر عليه صدر الرجل، ومن ذلك أن امرأة مجنونة قالت لرجل: يا ابن الزانيتين، فأقام ابن أبي ليلى عليها الحد في المسجد، وجلدها قائمة، وأقام عليها حدين، وبلغ ذلك أبا حنيفة، فقال: أخطأ ابن أبي ليلى في مواضع عدة، أقام الحد في المسجد، ولا تقام الحدود في المساجد، وضربها قائمة والنساء يضربن قعوداً، وضرب لأبيه حداً وأمه حداً، ولو أن رجلا قذف جماعة ما كان عليه غير واحد فلا يجمع بين حدين، والمجنونة ليس عليها حد، وحد لأبويه، وهما غائبان، ولم يحضرا فيدعيا.
وذهب ابن أبي ليلى إلى الخليفة يشكو أبا حنيفة واتهمه بأنه لا يفتأ يهينه، وذلك إهانة له أمام العامة لأن ابن أبي ليلى ينوب عن الخليفة في القضاء والفتوى، فأصدر الخليفة أمراً يمنع أبا حنيفة من التعليق على أحكام القضاء، ويمنعه من الفتوى، وامتنع الإمام أبو حنيفة عن الفتوى إلا أن يأذن له الخليفة، حتى قيل إن ابنته في البيت قد أدخلت خيطاً في أسنانها وهي صائمة، فسال الدم من فمها، فسألته عن حكم ذلك فامتنع عن الفتوى وهما اثنان لا ثالث لهما، وقال اسألي أخاك حماداً عن حكم ذلك؟ سمعاً وطاعة لأمر الخليفة الذي منعه من ذلك ظلماً...).
تأملت في هذه القصة التي تعطي درساً صريحاً لمن يطالب باستقلالية الفتوى والقضاء عن ولي الأمر من بعض طلبة العلم الذين صرحوا وعرضوا في الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى بهذا الأمر متجاهلين أن قولهم لا بد فيه من الاتفاق على مرجعية شرعية محكمة ذات تمثيل مؤسسي واقعي صادق لضبط المسار وحماية المجتمع من الانهيار، وهو قول لا يتفق مع قواعد الشريعة التي جاءت لحماية المجتمع المسلم من الفرقة والتشتت وضبط مساره عندما وضعت بيد الإمام صلاحيات يضبط من خلالها أمر المسلمين، ولذلك وقفت الشريعة بنصوصها أمام وجه كل من يسعى لتفريق الجماعة، ولا أعرف سببا يجعل أولئك ينسون أن العلماء والقضاة الذين يعينهم ولي الأمر هم نواب عن السلطان في الفتوى والقضاء والصلاة وغير ذلك من صلاحياته، والأعجب من ذلك أن هناك من يطلق على العلماء الذين يساعدون الحاكم المسلم في تطبيق شرع الله وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اسم علماء السلطان أو علماء السلطة ظلماً وعدواناً وهو مصطلح شرعي لا سُبّة فيه، لأن الإضافة إلى السلطان الذي هو ظل الله في الأرض لا تعد عيباً ومخالفة شرعية تستوجب الإنكار والنيل من العلماء والنواب. وكلنا يعلم تفاصيل القصة التي ترويها كتب السلف عندما أراد أبو بكر - رضي الله عنه - أن يولي عمر - رضي الله عنه - القضاء، فرفض عمر، وغضب عليه أبو بكر، وقال له: قد وليتموني هذا الأمر ثم ترفضون مساعدتي على تحقيق تلك الولاية؟
وما زلت أعجب أيضا من أولئك الساعين إلى الإفتاء والقضاء ومحاولة فرض ذلك على السلطة الشرعية والصحابة والسلف الصالح يتدافعون الفتوى ويرفضون القضاء حتى أن بعضهم تعرض للسجن والجلد؛ فنسأل الله الإخلاص والتجرد من حب الدنيا. وما الهجوم على العلماء الكبار والقضاة إلا شنشنة نعرفها من أخزم، إذ روى البخاري ومسلم عن الزبير قال: (دخلنا على أنس بن مالك، قال: فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: ما من عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعت هذا من نبيكم). قال ابن حجر ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب عن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي قبله حتى تقوم الساعة. لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علماً من اليوم الذي قضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون. ومن طريق الشعبي عن مسروق قال عنه: (لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شر مما كان قبله، اما أني لا أعني أميراًً خيراً من أمير، ولا عاماً خيراً من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفاء، ويجيء قوم يفتون برأيهم).
ومن أبلغ الأدلة التي تفند اتهام أولئك اننا لم نسمع - ولله الحمد - أن عالماً من علمائنا قد أفتى بما يخالف الكتاب والسنة، فهم الربانيون والموقعون عن الله - جل وعلا - لا يتحملون وزر ما يحدث من نتائج الحركية بحجة أنهم قصروا في البيان والتبليغ؛ لأن الإرهاب الفكري لم يسلم منه عهد الصحابة - رضي الله عنهم -، إذ ظهرت إرهاصات الخوارج وفكرهم الخبيث في عهد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأخبر بخروجهم، وقال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد. واستوى ذلك الفكر المتطرف في عهد الخلفاء الراشدين بعد ذلك، وحاشاهم التقصير - رضوان الله عليهم جميعاً - بل إن حال علمائنا في التأليف والتدريس والفتوى والكتابة دليل على أن ذلك محض افتراء وتدليس واتهام بلا دليل.
إن خطورة نزع الاحترام والتقدير الخاص بالعلماء والقضاة من نفوس الناس لا يقل عن تشويه ولاة الأمر في تلك النفوس؛ لأن الحاجز الحصين أمام تحقيق الحركيين أهدافهم في الثورة والخروج هم العلماء والقضاة وما لهم من تقدير واحترام لدى العامة؛ ولذلك فإن حمايتهم من ألسنة المغرضين والمتهمين واجب على كل من له سلطة وحالهم - كما قال الراغب الاصفهاني في كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة -: (لا شيء أوجب على السلطان من رعاية أحوال المتصدّين للرياسة بالعلم، فمن الإخلال بها ينتشر الشرّ ويكثر الأشرار، ويقع بين الناس التباغض والتناقض.. ولما ترشح قوم للزعامة في العلم بغير استحقاق، وأحدثوا بجهلهم بدعاً استغروا بها العامة، واستجلبوا بها منفعة ورياسة؛ فوجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم، وقرب جوهرهم منهم، وفتحوا بذلك طرقاً منسدة، ورفعوا به ستوراً مسبلة، وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة، وبما فيهم من الشر فبدّعوا العلماء وجهّلوهم اغتصاباً لسلطانهم، ومنازعة لمكانهم، فأغروا بهم أتباعهم ووطؤوهم بأظلافهم وأخفافهم، فتولد بذلك البوار والجور العام والعار).
إن هيئة كبار العلماء في وطننا الغالي تعد مرجعية مستقلة لا يتدخل في عملها أحد، محكمة لم تنخرم في إصدار فتاوى تناقض الشرع وقواعده السامية من مراعاة حال الأمة وواقعها وفق قاعدة (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة) وباب (سد الذرائع) وغيرهما على يد نخبة من علمائنا الافذاذ الذين يجب على طلبة العلم في بلادنا بعد أن لمسوا صدقهم وعلمهم وورعهم مؤازرتهم وعدم الافتيات عليهم، وخاصة إذا عرفنا ان الفقهاء يقولون لولي الأمر ان يمنع المفتي الماجن والمفتي الجاهل سواء كان هذا المفتي قد عينه ولي الأمر أو انه يقوم بالافتاء بلا تعيين، وفي الحالة الاولى له الحق أن يعزله عن منصبه ويولي غيره من الأكفاء. وفي الحالة الثانية لولي الأمر ان يمنعه من الافتاء ويتوعده إذا عاد.. فيا عجبا بعد ذلك من إرسال طلبات السير الذاتية لبعض طلبة العلم في بلادنا من بعض المواقع الالكترونية لتعيينهم بدار الفتوى الإلكترونية دون مراعاة لمصالح الأمة، وخروجاً على صلاحيات ولي الأمر في هذا الزمن المبتلى بأفراده استقلالاً بالفتوى الشرعية عن السلطان، وعبثا بقواعد الشريعة العظمى لتقع الأمة فيما بعد في خلاف لا تحمد عقباه.. والله من وراء القصد.
الإمارات العربية المتحدة
|