Tuesday 24th August,200411653العددالثلاثاء 8 ,رجب 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

الحبر الأخضر الحبر الأخضر
الكرسي
د. عثمان بن صالح العامر

كثيرا ما تمنيت أن أكون شاعراً أجيد نظم القوافي وقرض القصيد، أو رساماً مبدعا أمزج الألوان بشكل فريد، علني من خلال اللوحة البيانية أو الفنية أنثر على تلك الأرض الورقية أو الخشبية أو حتى القماشية ما في النفس من آهات وأشجان، وربما ما في الخاطر من رؤى وأفكار، وعلى كثرة هذه الأمنيات، ورغم تعدد المواقف التي تبعث شياطين الشعر لذاكرتي المشغولة الهرمة إلا أنها سرعان ما تنطفئ وتتلاشى وربما أنسيتها في وسط مجريات الزمن وأحداث الحياة، غير أن موقفاً مر بي الاثنين الماضي ما زال حتى هذه اللحظة عالقا في الذهن مثيراً للوجدان، حين ودعت مكتبي في كلية المعلمين على ألا أعود.. لقد لملمت أوراقي الشخصية المتناثرة.. أغلقت أدراج المكتب.. مزقت كثيراً من تلك القصاصات التي كان لها دور وانتهت صلاحيتها بعد أن لعبت أو ربما كانت أعجز عن لعب ذلك الدور.. حاولت أن أتفقد تلك الطاولة الأنيقة وما حولها.. حملت أحزاني بين جوانحي.. قمت متثاقلاً من مكاني الذي أجلس فيه.. أغلقت كالعادة المكيف والإضاءة.. توجهت نحو الباب لأضع بصمة الوداع على العتبة التي طالما دست عليها عند الصباح.. وربما استقبلتني حين المساء.. التفت التفاتة عجلى فربما تركت شيئا على الطاولة أو حول المكان.. لحظتها كان الكرسي الذي صحبته قرابة الخمس سنوات قبلي... حينها شعرت أن هذا الجماد الذي لم أكترث بوجوده لحظة واحدة من الزمن الفائت، شعرت أنه يناجيني، يحدثني، يودعني.. لف المكان الصمت المطبق الموجع ثوان معدودة.. كانت الحميمية الدافئة، والأحزان الموجعة، وآلام الفراق تلف كل ما هو داخل المكتب أو معلق على جدرانه.. خرجت مودعاً وبقيت تلك الصورة تطاردني حتى المساء، كان السؤال الذي أشغلني، هل حقا للجماد كل هذه المشاعر والأحاسيس؟ تذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبل أحد: (أحد جبل يحبنا ونحبه). إن المحبة عمل قلبي شعوري عميق ومن الطبيعي أن يتعلق قلب أي منا بمكان كان له فيه ذكرى أو أمضى فيه سنوات من العمر جميلة، ولكن عجيب أن يبادلك جماد هذه المشاعر الفياضة فيحب كما تحب، وصدق الله القائل: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ...}.. {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ...}. وعند المساء وفي هجعة الليل حاولت أن أنسى كل شيء علني أنام ولكن دون جدوى، عاودني السؤال، تمنيت أن أسأله الجميع: هل ساوركم هذا الشعور لحظة من حياتكم وفي أيام عمركم المنصرم طال أم قصر؟ فجأة جاءني طيف جدي - رحمه الله - وهو يودع قريتنا، يسلم على داره بعد أن أخرج يده من نافذة السيارة التي كان يقودها والدي - رحمه الله- يرفع يده وصوته معاً: (مع السلامة يا بيتي...)، يطلب المرور على الشارع المحاذي لمسجده الذي كان له فيه تاريخ فيودعه بالدموع والصوت الندي.. نمر على المقبرة في طرف القرية فينهار بالبكاء وهو يذكر أهله وأحبابه بالاسم واحدا واحداً:(في أمان الله يا أهلي وربعي، وأهل ديرتي وصحبي...) عجبت وأنا ابن الثامنة من عمري من هذه الوداع الحار للمسجد والمقبرة والدار، قرأت بعدها شعر البكاء على الأطلال الذي اعتبره بعض النقاد مقوما أساسيا من مقومات القصيدة الجاهلية على وجه الخصوص.. كم هو جميل قول أمرؤ القيس:


قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ
بسقْط اللوى بين الدخول فَحَوْمَلِ

* أو قول الأعشى:


ودّع هريرة إن الركب مرتحلُ
وهل تطيق وداعاً أيها الرجلُ

* تأسرني قصيدة ابن زريق البغدادي وهو يودع بغداد مرتحلاً إلى الأندلس:


أستودعُ اللهَ في بغداد لي قمراً
بالكرْخ من فلك الأزرار مطلعه
ودّعْتُه وبودّي لا يودّعه
صفوُ الحياةِ وإني لا أودّعه

* رائع قول الشاعر في هذه الصورة الأدبية المتميزة:


لماّ أناخوا قبيل الصبحِ عيسهمُ
وحملوها وسارت في الدجى الإبلُ
وأرسلت من خلال السجف ناظرها
ترنو إلي ودمع العين ينهملُ
وودعت ببنانٍ زانه عنم
ناديتُ لا حملتْ رجلاك يا جملُ
ويلي من البين ماذا حل بي وبها
من نازل البين حل البينُ وارتحلوا
يا حادي العيس عرج كي نودعهم
يا حادي العيس في ترحالك الأجلُ

في الغد جمعني مع صديق عزيز يجيد فن القصيد لقاء عارض، قلت له ما مر بي البارحة وما كان بالأمس، هز مشاعره حديث الكرسي ووداعه الحار فقال متقمصاً لحظة الوداع هذه:


لملمتُ أوراقي التي كانت هُنا
حولي ترفُّ ببهجةِ الأنُسِ
وجمعتُ كل الذكريات حملتهُا
في خاطري المشتاقِ للأمسِ
ودّعتُ أشيائي وكم أودعتها
حبي الطويل ومنتهى حسي
ورأيت ظلي قد تناثر قلبهُ
في الباب والشباك والكرسي
فمسحت دمع الروح من عين المنى
واسيتهُ بالصمت والهمس
وخرجتُ لم يخرجْ سوى جسدي
ومشيتُ لم أحملْ معي نفسي

أثناء كتابة هذا المقال بعث لي صديق عزيز نأت به الديار برسالة على الجوال، وجدتها مناسبة لأختم بها حديث الكرسي، قال فيها:


ما زلت في القلب لم ترحل ولم تغب
لكنما الشغل بالترحال ألهانا
ذكراكم صاحبي تنشق عن ألق
من الخصال تهادى وسط دنيانا

* حيث صدر قرار معالي وزير التربية والتعليم الموقر القاضي بتكليفي العمل في الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة حائل ابتداء من يوم الثلاثاء 1-7-1425هـ.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved