|
انت في "مقـالات" |
كثيرا ما تمنيت أن أكون شاعراً أجيد نظم القوافي وقرض القصيد، أو رساماً مبدعا أمزج الألوان بشكل فريد، علني من خلال اللوحة البيانية أو الفنية أنثر على تلك الأرض الورقية أو الخشبية أو حتى القماشية ما في النفس من آهات وأشجان، وربما ما في الخاطر من رؤى وأفكار، وعلى كثرة هذه الأمنيات، ورغم تعدد المواقف التي تبعث شياطين الشعر لذاكرتي المشغولة الهرمة إلا أنها سرعان ما تنطفئ وتتلاشى وربما أنسيتها في وسط مجريات الزمن وأحداث الحياة، غير أن موقفاً مر بي الاثنين الماضي ما زال حتى هذه اللحظة عالقا في الذهن مثيراً للوجدان، حين ودعت مكتبي في كلية المعلمين على ألا أعود.. لقد لملمت أوراقي الشخصية المتناثرة.. أغلقت أدراج المكتب.. مزقت كثيراً من تلك القصاصات التي كان لها دور وانتهت صلاحيتها بعد أن لعبت أو ربما كانت أعجز عن لعب ذلك الدور.. حاولت أن أتفقد تلك الطاولة الأنيقة وما حولها.. حملت أحزاني بين جوانحي.. قمت متثاقلاً من مكاني الذي أجلس فيه.. أغلقت كالعادة المكيف والإضاءة.. توجهت نحو الباب لأضع بصمة الوداع على العتبة التي طالما دست عليها عند الصباح.. وربما استقبلتني حين المساء.. التفت التفاتة عجلى فربما تركت شيئا على الطاولة أو حول المكان.. لحظتها كان الكرسي الذي صحبته قرابة الخمس سنوات قبلي... حينها شعرت أن هذا الجماد الذي لم أكترث بوجوده لحظة واحدة من الزمن الفائت، شعرت أنه يناجيني، يحدثني، يودعني.. لف المكان الصمت المطبق الموجع ثوان معدودة.. كانت الحميمية الدافئة، والأحزان الموجعة، وآلام الفراق تلف كل ما هو داخل المكتب أو معلق على جدرانه.. خرجت مودعاً وبقيت تلك الصورة تطاردني حتى المساء، كان السؤال الذي أشغلني، هل حقا للجماد كل هذه المشاعر والأحاسيس؟ تذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبل أحد: (أحد جبل يحبنا ونحبه). إن المحبة عمل قلبي شعوري عميق ومن الطبيعي أن يتعلق قلب أي منا بمكان كان له فيه ذكرى أو أمضى فيه سنوات من العمر جميلة، ولكن عجيب أن يبادلك جماد هذه المشاعر الفياضة فيحب كما تحب، وصدق الله القائل: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ...}.. {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ...}. وعند المساء وفي هجعة الليل حاولت أن أنسى كل شيء علني أنام ولكن دون جدوى، عاودني السؤال، تمنيت أن أسأله الجميع: هل ساوركم هذا الشعور لحظة من حياتكم وفي أيام عمركم المنصرم طال أم قصر؟ فجأة جاءني طيف جدي - رحمه الله - وهو يودع قريتنا، يسلم على داره بعد أن أخرج يده من نافذة السيارة التي كان يقودها والدي - رحمه الله- يرفع يده وصوته معاً: (مع السلامة يا بيتي...)، يطلب المرور على الشارع المحاذي لمسجده الذي كان له فيه تاريخ فيودعه بالدموع والصوت الندي.. نمر على المقبرة في طرف القرية فينهار بالبكاء وهو يذكر أهله وأحبابه بالاسم واحدا واحداً:(في أمان الله يا أهلي وربعي، وأهل ديرتي وصحبي...) عجبت وأنا ابن الثامنة من عمري من هذه الوداع الحار للمسجد والمقبرة والدار، قرأت بعدها شعر البكاء على الأطلال الذي اعتبره بعض النقاد مقوما أساسيا من مقومات القصيدة الجاهلية على وجه الخصوص.. كم هو جميل قول أمرؤ القيس: |
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة] |