تتناول هذه القراءة ثلاث مقالات.. وكانت الحلقة السابقة عن المقالة الأولى، التي كتبها الكاتب البريطاني المتخصص في شؤون المنطقة العربية، باتريك سيل، في صحيفة الحياة بتاريخ 14-5- 1425هـ؛ وعنوانها: (حصيلة حرب العراق التعيسة). ولقد أشار الكاتب إلى أرقام الخسائر الناتجة عما سماه، بحق، اجتياحاً وحشياً لاحتلال العراق في العام الماضي، واصفاً إياه بأنه كان مشروعاً استعمارياً بحتاً. لكنه لم يكتف بهذا، وإنما تحدث عن خلفية ذلك الاجتياح وأهدافه، التي قال: إنها طُعِّمت بأهداف خاصة بالكيان الصهيوني.
أما المقالة الثانية فكتبها الأستاذ سعد محيو في الحياة الأسبوعية (الوسط) بتاريخ 24-5- 1425هـ، وعنوانها: (دروس العراق.. جيش متحرك لتثبيت سيطرة الإمبراطورية الأمريكية). وقد بدأ الكاتب حديثه بالإشارة إلى أنه لا خلاف في جوهر التوجهات الإمبراطورية الأمريكية للسيطرة على العالم بين مرشح الجمهوريين (الرئيس الحالي) ومرشح الديمقراطيين، وإنما الخلاف بينهما حول الأسلوب المؤدي إلى تحقيق ذلك الجوهر.
وفيما يتعلق بالعراق بالذات فإن موقف الحكام الحاليين من الجمهوريين، برئاسة بوش الابن، واضح. أما موقف الديمقراطيين، برئاسة كيري، فلا يقل عن موقف الجمهوريين وضوحاً. ذلك أن كيري (لا يفكر، ولا يدعو, إلى طي صفحة الاحتلال الأمريكي للعراق، بل إلى كسائه بلبوس جديد تتعايش فيه الألوان الدولية والإقليمية تحت قبضة القوة العسكرية الأمريكية. ويريد أن تبقى القوات متعددة الجنسيات في هذا البلد حتى أمد طويل. وهو لا يريد أن يجعل الإفادة من دروس ما حدث في العراق منصبة على اتجاه تقنين التدخلات العسكرية الأمريكية في العالم، بل في كيفية جعلها أكثر كثافة وفعالية، وأقل تكلفة بشرية ومادية.
ويذكر الكاتب أن مأزق العراق سيسرع عملية الوصول إلى إستراتيجية توفيقية بين موقفين أحدهما يدعو إلى تحديد الأهداف، واستخدام القوم الكاسحة، وبلورة إستراتيجية الخروج قبل شن الحرب. وثانيها يركِّز على استخدام قوات أمريكية صغيرة تتمتع بحرية مناورة واسعة، وعلى عمليات القوات الخاصة والقوة الجوية ذات التقنية المتطورة جداً.
ثم يشير الكاتب إلى أن المأزق العراقي سرَّع من وتيرة التغيرات في مهمة الجيش الأمريكي، وتكوين إستراتيجية الأمن القومي الجديدة التي تطلبت في الدرجة الأولى بدء تغيير ذلك الجيش من قوة نظامية إلى وحدات إمبراطورية شبيهة - إلى حد ما - بوحدات الحرس الإمبراطوري الروماني التي كانت تنتقل في كل أنحاء العالم لقمع تمردات (البرابرة). وبات الجيش الأمريكي يطلق على نفسه اسم (القوة الموضوعية) للتمييز عن القوة الذاتية النظامية السابقة؛ واضعاً لنفسه الأهداف الآتية:
1- العمل على نقل فرقة عسكرية إلى أي مكان في العالم خلال 96 ساعة.
2- اتباع المرونة في التعاطي مع الأنماط المختلفة من الحروب.
3- تمتع وحدات الجيش الصغيرة بجهوزية للتحرك في أي وقت وإلى أي مكان.
4- تطوير قدرات قوات الاحتياط لتتمكن من مشاركة قوات الجيش في التدخل السريع في كل أنحاء العالم.
5- الحرص على خوض المعارك في إطار تحالفات عسكرية مع أصدقاء أمريكا وحلفائها للحصول على شرعية - وإن نسبية -، وتخفيف أعباء التدخلات وتكاليفها.
ثم يختتم الكاتب سعد محيو مقالته بذكر أن المحللين الأمريكيين بمختلف توجهاتهم أصبحوا يبدون اقتناعهم بأن وجود إمبراطورية أمريكية لم يعد ضرورياً فحسب، بل لا غنى للعالم عنه، كما يتضح من الدراسة التي نشرها الباحث الأمريكي، نيل فيرغسون، في دورية السياسة الخارجية بعنوان: (عالم من دون قوة) راسماً صورة قاتمة لهذا العالم لو قررت أمريكا التخلي عن الزعامة العالمية، والعودة إلى العزلة، إذ ستعود البشرية إلى الفوضى التي شهدتها في بعض القرون الماضية.
ويرى الأستاذ محيو أن مقتضى كلام أولئك المحللين؛ وبخاصة فيرغسون، أنه لتجنب مثل هذا المصير سيكون على العالم الامتثال لإملاءات القوة الأمريكية المفرطة، والترحيب بتدخلها سياسياً وعسكرياً، حتى تصبح أمريكا هي العالم، وتتحول قواتها فرقاً عسكرية في خدمة إمبراطورية العولمة، التي هي الوجه الآخر الحقيقي للأمركة.
وأما المقالة الثالثة التي تتناولها هذه القراءة، فكتبتها الأستاذة ليلى حسن في الحياة الأسبوعية (الوسط) نفسها، وفي العدد الذي كتب فيه الكاتب محيو مقالته. وعنوان مقالتها: (لماذا تصر واشنطن على حججها في حرب العراق؟).
بدأت الأستاذة ليلى مقالتها بطرح سؤال عن الأهداف من تسليم السلطة في العراق للعراقيين؛ مشيرة إلى احتمال أن يكون أهمها مواجهة الأصوات المناهضة للحرب داخل أمريكا وخارجها؛ وهي الأصوات التي تعد الإدارة الأمريكية كذبت - وما زالت تكذب - بإظهارها الأسباب الموجبة لتلك الحرب، وقائلة:
(لقد غادر القيصر بول بريمر (وقد سمّاه الإبراهيمي الدكتاتور) العراق منهياً مهمته التاريخية كمن يسلّم الحكم فعلاً لأصحاب الحق، لكنه ترك وراءه الوجود العسكري الضخم (حوالي 140000 جندي) على أرض العراق. ومن الواضح أن ذلك - إضافة إلى إظهار صدام للمحاكمة - كان ملهاة لرأي عام أمريكي لإسكات النقمة المتنامية على الرئيس وإدارته من جهات بينها نداء مجموعة من الدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين، وتقرير لجنة التحقيق في الاتهامات التي ساقتها الإدارة تبريراً لغزو العراق، ومع كل ذلك فإن الرئيس الأمريكي - كما تقول الكاتبة - استمر بطريقة مثيرة للسخرية، في تأكيده على وجود علاقة بين الحكم العراقي السابق و(القاعدة).
وتقول: إن مما يؤكد عدم صحة الادعاءات الأمريكية أن ريتشارد كلارك، المنسق السابق لعمليات محاربة الإرهاب في البيت الأبيض، صرَّح أمام إحدى لجان التحقيق بأن الرئيس بوش أمره بالعثور على أدلة عن ضلوع العراق في عمليات الحادي عشر من سبتمبر.. وأن المسؤولين في البيت الأبيض شددوا على إظهار أدلة رغم عدم صحتها.. وكذلك الحال بالنسبة لأسلحة الدمار الشامل التي لم يعثر عليها.
وتقول أيضاً: إن كلارك يرى أن لدى الرئيس الأمريكي ومن حوله هوساً مبنياً على أنهم وحدهم على حق، ويتصرفون بعنجهية لا مثيل لها، وأنهم يريدون إعادة رسم خريطة المنطقة لمصلحة إسرائيل - وإن لم يقل ذلك بوضوح -، وإزالة أي خطر يمكن أن يهدد سيطرتها الكلية في المنطقة، وأن من واجب الإدارة الأمريكية الظهور بمظهر الحكم العادل، لا بمظهر الفريق المندفع كلياً للدفاع عن سياسة شارون.
ومما ورد في مقالة الأستاذة ليلى قولها: إنه يتبين أن رجال بوش، الذين خططوا للحرب على العراق، هم مجموعة من المتعصبين لإسرائيل، الذين درجت العادة على تسميتهم بالمحافظين الجدد وعلى رأسهم نائب الرئيس ديك تشيني، ونائب وزير الدفاع، بول ولفوفيتز، أشرس المدافعين عنها في الإدارة، وصديقه ريتشارد بيرل، الرئيس السابق لمجلس الدفاع، وكارل روف مستشار الرئيس بوش، الذي شكل مجموعة هدفها العمل على تضليل الرأي العام الأمريكي.
وتضيف الأستاذة ليلى قائلة:
(وكان أفراد تلك المجموعة يخططون، منذ وقت طويل، لعملية عسكرية ضد العراق باتت أهدافها معروفة اليوم، وقدِّمت لهم على طبق من فضة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ثم حصل ما حصل من تضليل إعلامي، وما نقل السلطة إلى العراقيين إلا محاولة فاشلة للتغطية على التجاوزات التي حصلت، والتي توجت بعمليات التعذيب في سجن أبو غريب وغيره).
وما أوردته الكاتبة في مقالتها أهم ما تضمَّنه النداء، الذي وجهه حوالي ثلاثين من كبار قدامى الضباط والسياسيين الأمريكيين بعنوان: (جورج بوش.. لقد دقَّت ساعة التغيير)؛ مذكرين إياه وجماعته بالأخطاء التي جعلت من أمريكا مفزعة للشعوب العربية والإسلامية، وتركتها وحيدة، وهي التي كانت مخوَّلة قيادة العالم لو اتبعت سياسة التعاون الدبلوماسية الضرورية.
ويأخذ هؤلاء على إدارتهم ازدراءها للمؤسسات الدولية، ومقاربتها السلطوية المتعالية لدور أمريكا في العالم، وتجاهلها مصالح الحلفاء التقليديين وآراءهم، واختلاق الحجج الكاذبة لتبرير غزو العراق، والانحياز المطلق لإسرائيل.
وتختتم المقالة بالإشارة إلى ما خلص إليه أولئك المنادون من اعتبار إدارة بوش غير قادرة على استيعاب متطلبات الوضع العالمي الجديد، وأنها عاجزة عن الظهور بمستوى المسؤولية المطلوبة من دولة قيادية كبرى، لذلك يعلنون أن ساعة التغيير قد دقَّت. ثم تنهي اختتامها تلك المقالة قائلة:
(هل يسمع الرئيس بوش نصيحة ناصح من أهلها متمرس بالأمور الدولية والدبلوماسية والعسكرية؟).
أما كاتب هذه السطور فيقول: إن الإدارة الأمريكية لا يمكن أن تصغي لناصح مادامت مصالحها في العالم الذي تمعن في إهانته وإذلاله لا مساس بها، ولو عاد إلى المهانين شيء من الكرامة التي فقدوها، وأصلحوا أوضاعهم؛ عدلاً واستقامة وتضامناً، لأصغت إليهم أسماع المتكبرين من الأمريكيين وأتباعهم. وسنّة الله في خلقه أنه لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم.
|