استطاع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن يطور مفهوم التنمية البشرية ليركز على الإنسان كغاية ووسيلة، وبطريقة احتوت عناصر التنمية والتقدم. وأصبحت التنمية البشرية تجمع بين إنتاج السلع وتوزيعها وبين توسيع القدرات البشرية والانتفاع بها والتركيز على توسيع الخيارات.
ذكرت ذلك دراسة قُدِّمت لمؤتمر تعليم الكبار والتنمية، وأوضحت الدراسة أن مفهوم التنمية البشرية أصبح يتضمن أبعاداً مهمة كثيرة، منها الحرية السياسية ومنها الأمن البشري، كما تضمن المفهوم مكانة مرموقة للبيئة والمستقبل، وبذلك فقد تحولت التنمية من مجرد أرقام وحسابات احصائية، ومن مجرد تطوير لعناصر الثقافة المعنوية للمجتمع من الداخل، ومن مجرد تشكيلة من الحلول القادمة من الخارج أو المعبأة في طرود إلى تنمية للإنسان ومن أجل الإنسان. فإذا كان المفهوم التقليدي للتنمية قوامه التنمية من أجل الناس سعياً نحو تحقيق التنمية الاقتصادية بأبعادها المادية وتوزيع ثمار منافعها، فإن التنمية البشرية الجديدة صار هدفها ومضمونها تنمية الناس بهم ومن أجلهم. وربما يكون أبرز ما قدمه الفهم الجديد للتنمية وعلاقته بالناس هو تعميق محورية الثقافة داخل منظومة التنمية ذات الأبعاد المتعددة باعتبارها القوة الكامنة والمحركة للمجتمع التي تتساوى في تأثيرها مع العوامل الاقتصادية والتكنولوجية وتفعل فعلها في مساعدة الشعوب على تحسين أوضاع حياتهم المادية والفكرية دونما إحداث أي تغيير في أساليب حياة الشعوب أو طرق تفكيرهم، وفي نفس الوقت الإسهام في إنجاح الخطط أو المشروعات التنموية، الأمر الذي قاد إلى أهمية الميراث الثقافي والقيم الثقافية، ولا سيما تلك التي تنطوي على عناصر حيوية في مقدمتها البيئة والعلم باعتباره ثقافة ومعرفة.
وقد أشارت الدراسة إلى أن تقرير التنمية البشرية لعام 1994 تضمن تطويراً جوهرياً لدليل التنمية البشرية؛ حيث تم حسابه على أساس مختلف عن الأساس الذي تم به حساب الدليل في السنوات السابقة 1990 - 1993م؛ فقد أصبح هذا الدليل يعتمد على المجموع المركب لدرجات ثلاثة مؤشرات مركبة أساسية في حياة البشر، وهي العمر المتوقع عند الولادة 85 ، 25 عاماً، ومعرفة القراءة والكتابة بين الكبار (100% ، صفر%)، ومتوسط سنوات الدراسة (15 عاماً وصفر)، والدخل (4000 - 200 دولار) حسب ما يعادله، القوة الشرائية.
والمؤتمر الأول - العمر المتوقع - يتصل بالمستوى العام للصحة ومدى كفاية التغذية كماً وكيفاً. وبالنسبة للمؤشر الثاني معرفة القراءة والكتابة ومتوسط سنوات الدراسة فهو مؤشر معرفي يتصل بمدى توافر الفرص التعليمية كأساس للعمل الإنتاجي. أما المؤشر الأخير فهو مؤشر اقتصادي سبق الاعتماد عليه ويوضح حجم الإنتاج والانتاجية الوطنية. وواضح أن هذا الدليل يتيح إجراء مقارنات أكثر جدوى فيما بين البلدان وعبر الزمن.
والواضح أن مفهوم التنمية البشرية أعمق وأغنى كثيراً مما يمكن أن ينعكس في أي دليل، أو مجموعة مفصلة من المؤشرات الإحصائية. وإذا كان المفهوم التقليدي للتنمية شعاره التنمية من أجل الناس، فالمفهوم الحديث يرى أن التنمية بالناس بماهيتهم واختياراتهم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. ومع ذلك فهو مفيد لتبسيط واقع معقد، وهذا هو ما يسعى إليه دليل التنمية البشرية، فهو دليل مركب من المنجزات في القدرات البشرية في ثلاثة أبعاد جوهرية هي الحياة الطويلة والمعرفة ومستوى المعيشة اللائق. وقد اختيرت ثلاثة متغيرات لتمثل هذه الأبعاد، وهي: متوسط العمر المتوقع، والتعليم، والدخل.
وتقرر الدراسة أن التنمية تحولت من مجرد أرقام وحسابات إحصائية، ومن مجرد تطوير لعناصر الثقافة المعنوية للمجتمع من الداخل، ومن مجرد تشكيلة من الحلول المطبوخة في الخارج أو المعبأة في طرود إلى تنمية للإنسان ومن أجله. وإذا كان المفهوم التقليدي للتنمية بشعار التنمية من أجل الناس تحقيقاً للتنمية الاقتصادية وتوزيع منافعها فإن شعار التنمية البشرية تنمية الناس من أجل الناس أنفسهم، وكما يقول أحد الكتاب: إن تنمية الناس هي تنمية الموارد البشرية، فأنت تستثمر في الناس التربية والصحة والتغذية؛ فالتنمية تمحورت حول الناس.
والأمر المهم في استراتيجات التنمية البشرية مركَّز في الإنتاج، ولا يقتصر التركيز على المصانع والمداخل والإنتاج والاستهلاك والصادرات والواردات؛ فجميعها مهمة وهي آليات ضرورية، ولكنها مجرد آليات فقط، فالتركيز يكون على الناس باعتبارهم الهدف الحقيقي للتنمية. وعلى رب العالمين الاتكال.
| 
"مقـالات"