قبل الحرب الأهلية كنا نخاف على العراق من أن تتطور مع أمريكا إلى حرب أهلية، تنتهي بتفككه وتشرذمه إلى دويلات، لا سيما وأن تركيبته الديمغرافية تشكل من موازييك أثنية وطائفية وقومية متعددة وجاهزة ومهيئة لهذا التفكك والانحلال وما يجري في النجف من أحداث، وطريقة تعامل السلطات العراقية الحاكمة وكذلك السلطات الأمريكية المحتلة مع هذه الأحداث، من شأنه أن يسعى بالأوضاع هنا إلى نفق مظلم، قد يعزز من احتمالات الحرب الأهلية وبالتالي تفكك لا سمح الله، أو قد يجعل الدولة الديمقراطية المأمولة في العراق مجرد حلم بعيد المنال، وكلا الأمرين كما ترون أحلاهما مُر.
فالذي يجب أن تدركه السلطات السياسية الجديدة في العراق أن القوة ليست دائماً هي الحل الصحيح في مواجهة التمردات والانشقاقات السياسية، حتى ولو كانت تقف في صفك وفي مساندتك الولايات المتحدة الأمريكية أقوى قوى الأرض قاطبة فالرأي قبل شجاعة الشجعان، كما أن السياسة هي دائماً فن الممكن وليست أبداً فن القوة والقمع، فلو كانت كذلك لبقي صدام حسين في حكم العراق إلى أبد الآبدين. وهذا ما يجب أن ينتبه إليه الحكم الجديد في العراق، فمن الواضح أن هناك تنافساً كبيراً بين مكونات الشعب العراقي بعد سقوط حكم البعث، كل فئة من هذه المكونات تحاول أن تستثمر الوضع الجديد في تحقيق أعلى قدر من المكتسبات لصالحها. هذا التنافس بين هذه الفئات قد يكون مقبولاً إذا تم وفق اللعبة السليمة الديمقراطية، ورضخ المتنافسون إلى شروط صناديق الانتخابات، غير أنه يصبح نذير شؤم ومؤشر خطورة إذا تحول إلى صراع مسلح يحتكم فيه المتصارعون إلى البندقية والرصاص، مثلما يحصل الآن مع جيش مقتدى الصدر، وهو ما تخافه على العراق الجديد بكل صراحة.
صحيح أن الصدر يحاول أن يضع ثقل أسرته المذهبي إلى جانبه في صراعاته السياسية والعسكرية محاولاً توظيف تراث آبائه وأجداده معه في السيطرة على الحكم في العراق، وصحيح أن مثل هذه الممارسة (انتهازية) قد تحول العراق إلى إيران جديدة، وصحيح أن السلطة الحاكمة في العراق يجب أن تتصدى لهذه المحاولات غير المسؤولة والانتهازية ولا تدعها تمر بأي حال من الأحوال، غير أن مواجهة مثل هذه اللعبات بالقوة والحديد والنار من قبل السلطة الحاكمة مثلما هو الوضع الآن، وبالذات والسلطة العراقية تعتمد في قوتها وسطوتها على دعم المحتل الأمريكي، من شأنه أن يعمق الفجوة بين السلطة الحاكمة والشعب العراقي، وفي المقابل يستقطب التيار الصدري مزيداً من التعاطف ويخرجه أمام العراقيين، وأمام العرب، بصورة البطل الذي يقود المقاومة ويسعى إلى تحرير البلاد من المحتلين وهذه في النهاية كل ما يطمح تيار الصدر إليه، الأمر الذي سيجعله مهيئا من حيث الجماهيرية والشعبية والمؤيدون فيما بعد للسيطرة على الساحة العراقية وبالذات فيما لو احتكم العراقيون إلى الانتخابات مثلما هو متوقع.
وهذا لا يعني البتة انني أدعو إلى أن تذعن السلطات الشرعية العراقية لشروط تيار الصدر، وتمكنه من قيادة السفينة العراقية نحو دولة ثيوقراطية كما يريد، ولكن يجب أن تبذل في تقديري كل ما في وسعها بذله من جهود لتفادي الحلول العسكرية، وأن تستعين في صراعها معه بمرجعيات شيعية لها قوة ونفوذ ومكانة تكون أعلى في التراتبية الهرمية الشيعية من مقتدى الصدر، بالشكل الذي يحجم قدرته على توظيف الخطاب الديني إلى جانبه في مواجهة المؤسسة الحاكمة وفي رأيي أن مثل هذه الممارسات هي الحل الأفضل والأمثل لتطويق حركة الصدر وتفريغها من محتواها وبالذات المحتوى والإرث الديني الذي يتكئ عليه مقتدى الصدر في صراعاته العسكرية..
|