الكتاب: REAGAN AND GORBACHEV How the Cold War Ended
المؤلف: Jack F.Matlock Jr
الناشر: Random House
حظي الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان باحترام كبير باعتباره المنتصر في الحرب الباردة ومحرر دول أوروبا الشرقية الشيوعية من سيطرة الاتحاد السوفيتي الذي لم يعد له وجود بانتهاء الحرب الباردة.
ولكن جاك ماتلوك مؤلف كتاب (ريجان وجورباتشوف.. كيف انتهت الحرب الباردة؟) يقول: إن القضية ليست بهذه البساطة التي يتحدث بها الكثيرون عن انتصار ريجان على الشيوعية والقضاء عليها.
وعندما يقول ماتلوك هذا فهو يدرك تماما ما يتحدث عنه، فالرجل دبلوماسي أمريكي قديم وخبير في شئون الاتحاد السوفيتي ووصل في سلك العمل الدبلوماسي إلى مرتبة مرموقة في عهد الرئيس الراحل رونالد ريجان، حيث أصبح منسق السياسة الأمريكية تجاه الاتحاد السوفيتي في البيت الأبيض ثم سفيرا للولايات المتحدة في موسكو قبل انهيار الاتحاد السوفيتي. والحقيقة أن هذا الكتاب الذي يقدم سيرة ذاتية للدبلوماسي الأمريكي يحظى بالكثير من الإشادة بآخر رئيس سوفيتي ميخائيل جورباتشوف.
وعندما سئل الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان في مؤتمر صحفي بالعاصمة السوفيتية موسكو عام 1988 وهي السنة الاخيرة له في البيت الأبيض عن دوره في السياسة التي كان الرئيس السوفيتي جورباتشوف يتبناها والمعروفة باسم الإصلاح أو البيروستوريكا والتي أدت إلى تفكيك الاتحاد السوفيتي أو دراما القرن العشرين على حد تعبير الصحفي موجه السؤال، قال ريجان إنه مجرد ممثل مساعد وأن البطل الحقيقي فيما يجري هو ميخائيل جورباتشوف كقائد ورئيس للاتحاد السوفيتي، ولكن الكثيرين يشيرون إلى تصريحات ريجان تلك باعتبارها دليلا على كرم أخلاق الرئيس الأمريكي الراحل وتواضعه.
ولكن كتاب ماتلوك الأخير يؤكد تلك التصريحات التي أدلى بها ريجان قبل أكثر من 15 عاما عن الدور الذي لعبه جورباتشوف في تفكيك الكتلة الشيوعية ووضع حد للحرب الباردة، هذا الكتاب لا يقدم ريجان - الرئيس رقم أربعين في تاريخ الولايات المتحدة- باعتباره ذلك السياسي صاحب الرؤية الثاقبة والمخطط السياسي الذي استطاع تطوير استراتيجية الاحتواء والردع في التعامل مع الاتحاد السوفيتي من أجل القضاء عليه باعتباره (إمبراطورية الشر) على حد تعبيره.
ولكن الكتاب يقدم الرئيس الأمريكي رقم أربعين باعتباره سياسيا نفعيا للغاية يتمتع بشخصية متفائلة غير اتجاهاته وأسلوبه من أجل تشجيع ظهور نوع جديد من القيادة في الكرملين مقر الحكم السوفيتي.
خلال فترته الرئاسية الأولى من عام 1981 إلى 1984 كان ريجان يهاجم الاتحاد السوفيتي في فترة ما قبل حكم جورباتشوف وأطلق عليه اسم (إمبراطورية الشر)، وقد أثار هذا الاسم الكثيرين من السوفييت ولكنه لم يؤد إلى مشكلة دبلوماسية كبيرة بين واشنطن وموسكو لأن العلاقات بين البلدين كانت بالفعل في أسوأ حالاتها.
وقد أصابت الشيخوخة مؤسسة الحكم السوفيتية خلال النصف الثاني من السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات وتحول الميدان الأحمر إلى ساحة لتشييع جنازات الرؤساء السوفييت الذين توالوا على الحكم بعد خروتشوف وجميعهم تجاوزوا السبعين بحيث كان الرئيس يتولى الحكم لينقل إلى إحدى المستشفيات منتظرا الموت.
ولكن في عام 1985 ومع بداية الفترة الرئاسية الثانية للرئيس ريجان كان ميخائيل جورباتشوف البالغ من العمر 54 عاما في ذلك الوقت قد صعد على سدة الحكم في موسكو.
وكان جورباتشوف يرغب في إخراج الاتحاد السوفيتي من سباق التسلح وإنهاء عسكرة السياسة الخارجية السوفيتية لخفض الإنفاق العسكري وإصلاح الاقتصاد السوفيتي المتداعي.
ولم يكن جورباتشوف يتوقع أي مساعدة من جانب ريجان الذي كان ينظر إليه ليس باعتباره مجرد (محافظ بسيط) ولكن (كديناصور) سياسي، وحتى ذلك الوقت كان ريجان يفترض أن السكرتير العام الجديد للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي سوف (يظل متمسكا بالأهداف السوفيتية التقليدية)، ومع ذلك فإنه كان مستعدا للتجاوب مع انطباع رئيسة الوزراء البريطانية في ذلك الوقت مارجريت تاتشر التي كانت أول زعيم غربي يلتقي بالرئيس السوفيتي الجديد حيث قالت عنه ( يمكننا العمل معا)، في الوقت نفسه كانت الرغبة في العودة إلى العمل الدبلوماسي مع العدو الرئيسي للولايات المتحدة شديدة لدى ريجان تماما كما كان الأمر مع ستة رؤساء سبقوه في احتلال البيت الأبيض خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
فقد بذل الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت إيزنهاور ثم جون كيندي الكثير من الجهد من أجل إعطاء الشعار الذي رفعه الرئيس السوفيتي في عهديهما نيكيتا خروتشوف (التعايش السلمي) واقعا، وجاء ليندون جونسون بعد اغتيال جون كيندي وأطلق محادثات الحد من سباق التسلح مع الاتحاد السوفيتي في عهد الرئيس ألكسي كوسجين.
ووقع الرؤساء الأمريكيون ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد وجيمي كارتر على التوالي اتفاقات للحد من الأسلحة الاستراتيجية مع الرئيس السوفيتي ليونيد بريجنيف، ولكن المشكلة أن كل الرؤساء السوفييت طوال تلك الفترة كانوا حريصين في المقام الأول على الإبقاء على الأوضاع الراهنة كما هي دون تغيير.
وقد أدى ذلك إلى عرقلة محاولات التقارب الدبلوماسي بين موسكو وواشنطن وتفجر الأزمات الخطيرة بين الجانبين كما حدث عندما اجتاحت القوات السوفيتية المجر عام 1956 وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 والغزو السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968 للقضاء على الثورة ضد الشيوعية التي عرفت باسم (ربيع براغ) ثم الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979 وإسقاط السوفييت لطائرة مدنية كورية جنوبية عام 1983م، والخلاصة أن محاولات إعطاء الحيوية والقوة للعلاقات الدبلوماسية الأمريكية السوفيتية كانت تنتهي بالفشل غالبا على حكم ستة رؤساء أمريكيين.
ولكن جورباتشوف غير تلك الآلية التي حكمت العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن وموسكو لما يقرب من نصف قرن، فقد كان جورباتشوف مصرَّاً على المضي بالاتحاد السوفيتي في اتجاه مختلف تماما، فقد كان الرجل يردد باستمرار أن على بلاده الخروج من وهم الكذبة الكبرى عبر سياسة المكاشفة (الجلاسنوست) والتخلي عن الاقتصاد الموجه من خلال برنامج للإصلاح الاقتصادي (البيروسترويكا) والتخلي عن فكرة المنافسة مع الغرب حتى النهاية وفقا لصيغة (منتصر واحد) أي ضرورة المضي في المنافسة حتى تنتهي بقضاء طرف على آخر.
وأدرك ريجان سريعا أن أهداف جورباتشوف أبعد ما تكون عن الأهداف السوفيتية التقليدية، بل إن هذه الأهداف الجديدة أقرب ما تكون إلى تحول ثوري في الموقف السوفيتي، كما أدرك الرئيس الأمريكي أن نجاح التحولات التي يريدها جورباتشوف للاتحاد السوفيتي سوف تخدم المصالح القومية الأمريكية، وبدون ضجيج كبير وكذلك بدون دعم كبير من مساعديه قرر ريجان مساندة هذه التحولات التي تجري في المعسكر الشرقي على مسئوليته الشخصية.
وبذل الرئيس ريجان جهودا كبيرة وتدخل بشكل شخصي لكي يقنع جورباتشوف بأن الولايات المتحدة لن تجعله يندم على الطريق الذي اختاره لبلاده، ويصف ماتلوك في كتابه بشيء كثير من التفاصيل كيف استعد ريجان لأول لقاء له مع جورباتشوف والذي تم في جنيف في نوفمبر عام 1985م فقد طلب من ماتلوك الذي كان واحدا من أقرب مسئولي إدارته إليه أن يقوم بدور الرئيس السوفيتي ويتحدث بطريقته الساخرة وبنبرته الواثقة.
في الوقت نفسه أرسل ماتلوك سلسلة من المذكرات الخادعة التي امتزجت بالعديد من الطرف والنوادر التي يمكن للرئيس الأمريكي استمالة جورباتشوف بها خلال اللقاء، استند اختيار هذه النكات والنوادر على التخمين وفي ضوء ما حصل عليه من معلومات من مستشاري جورباتشوف الذين التقى بهم أثناء الإعداد للقاء، وقبل قليل من التوجه إلى جنيف لعقد اللقاء التاريخي مع الرئيس السوفيتي الجديد وضع ريجان مذكرة طويلة بنفسه تتضمن تقييمه الشخصي للرجل الذي سيلتقي به.
وكانت خطة ريجان للقاء جورباتشوف تعتمد على التركيز على نقاط الاتفاق ذات الاهتمام المشترك وتجاهل نقاط الخلاف ومساندة الخطوات الإصلاحية التي بدأها جورباتشوف في الاتحاد السوفيتي، كما تضمنت خطة ريجان (تجنب أي مطالبة بتغيير نظام الحكم) على حد تعبير ماتلوك نفسه.
وحذر الرئيس ريجان مسئولي إدارته من استفزاز جورباتشوف بطلب أي تنازلات يمكن للرجل أن يقدمها من تلقاء نفسه، وكان ريجان يريد إقامة علاقة خاصة مع الرئيس السوفيتي الجديد تجعل من السهل إدارة أي نزاعات مستقبلية بما يحول دون تحول الحرب الباردة إلى (حرب ساخنة) بين القطبين، وهذا الهدف ظل هدفا استراتيجيا لكل رؤساء أمريكا منذ عهد إيزنهاور وعلى امتداد سنوات الحرب الباردة التي زادت عن أربعين عاما.
وألقى ماتلوك الضوء بأقصى قدر ممكن على حلم الرئيس ريجان بإقامة نظام للدفاع الصاروخي المضاد للصواريخ فوق سماء الولايات المتحدة والذي عرف باسم حرب النجوم.
ولكن المؤلف توقف قبل أن يصل إلى الادعاء الذي أصبح احدى البديهيات في أدبيات التيار المحافظ في السياسة الأمريكية الذي يقول ان مشروع الدرع الصاروخي لم يكن سوى مناورة عبقرية من جانب الرئيس ريجان هدفها إشعال سباق التسلح لدفع الاتحاد السوفيتي إلى الانهيار اقتصاديا ثم سياسيا في ضوء الحقائق التي كانت معروفة عن تدهور الاقتصاد السوفيتي وعدم قدرته على تحمل نفقات مثل هذا السباق التسليحي المدمر.
وبدلا من ذلك ركز ماتلوك على محاولات ريجان إقناع جورباتشوف بأن السياسات العسكرية والدفاعية الأمريكية لا تمثل أي تهديد للمصالح المشروعة للاتحاد السوفيتي ولذلك لا يجب أن تحول هذه السياسات دون مواصلة الزعيمين العمل على إيجاد درجة عليا من الثقة المتبادلة بينهما.
وكان الشعار الذي رفعه ريجان خلال اللقاء هو (ثق ولكن استوثق) أي يجب على الطرفين أن يثقا في بعضهما البعض ولكن مع وجود آلية تضمن لكل طرف أن يستوثق من التزام الطرف الآخر بما اتفق عليه.
ولم يكن ريجان يسعى فقط من وراء هذا الشعار إلى التزام الحذر في التعامل مع السوفييت، ولكن أيضا كان يهدف إلى تحذير وزير دفاعه المتهور والمتشدد والشكاك كاسبر واينبرجر.
يقول ماتلوك إن كاسبر واينبرجر (كان مقتنعا تمام الاقتناع بأنه لا توجد أي فوائد محتملة من التفاوض على أي شيء مع القادة السوفييت، وأن أغلب هذه المفاوضات ليست سوى فخاخ خطيرة).
ثم تحدث الدبلوماسي الأمريكي السابق في كتابه (ريجان وجورباتشوف) عن الصراعات والخلافات بين وزير الخارجية جورج شولتز ووزير الدفاع كاسبر واينبرجر في إدارة الرئيس ريجان.
هذه العلاقة تشبه تماما العلاقة القائمة بين وزير الخارجية كولن باول ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد في إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش، فقد كان شولتز يشعر باستياء شديد من النزعة العسكرية لوزير الدفاع في معالجة الأمور لدرجة دفعت وزير الخارجية إلى التلويح بالاستقالة.
وقد كتب ريجان في مذكراته (لا أستطيع أن أترك هذا.. استقالة شولتز) يحدث، في الواقع شولتز كان ينفذ سياستي بحذافيرها، وكما يقول ماتلوك فإن هذه السياسة (كانت متسقة طوال الوقت).
فقد كان ريجان (يريد تقليص خطر الحرب وإقناع القادة السوفييت بأن التعاون مع الولايات المتحدة يخدم مصالح الشعب السوفيتي أكثر مما تخدمه المواجهة والتنافس معها وتشجيع سياسة الانفتاح والتحرك تحت الديمقراطية في الاتحاد السوفيتي).
وفي حين نسب ماتلوك الكثير من الفضل إلى أسلاف ريجان وإلى خليفته المباشر بوش الأب في التعامل مع الاتحاد السوفيتي بما ضمن انتهاء الحرب الباردة لصالح الولايات المتحدة، فإن شهادته التي جاءت في كتابه (ريجان وجورباتشوف) عن إنجاز الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان باعتباره القائد الأعلى للدبلوماسية الأمريكية طوال ثماني سنوات هي خدمة للشعب بالقدر الذي تمثل فيه خدمة للتاريخ.
كما أن هذا الكتاب جاء ليصحح الكثير من الأخطاء التي انتشرت بقوة خلال الصيف الحالي مع رحيل ريجان عن الحياة والتي بالغت في تصوير الدور الذي لعبه ريجان في انهيار الاتحاد السوفيتي.
وما فعله ماتلوك الذي كان من أقرب مسئولي إدارة الرئيس الراحل إليه ينطوي على خدمة كبيرة لتاريخ ريجان، فالحقيقة أفضل كثيرا للرئيس الأمريكي رقم أربعين من الأساطير التي ينثرها المحافظون، والمحافظون الجدد حول اسمه.
|