Friday 20th August,200411649العددالجمعة 4 ,رجب 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

بأي لغة يكتبون شهادة ميلادك يا (معبر) ؟! بأي لغة يكتبون شهادة ميلادك يا (معبر) ؟!
عبدالله بن ثاني

ماذا لو شهد فرانز كافكا ذو الخيال الأسود هذا الزمن وتحولاته القاسية، يا ترى بأي لغة سوربالية يكتب شهادة ميلاد (معبر) ذلك الطفل الفلسطيني المولود بالعراء بعد حجز والدته وهي في المخاض على معبر رفح بين مصر وفلسطين مدة أسبوعين كاملين، ليأخذ اسمه نصيباً من تلك المعاناة التي لا تنتهي في ظل العسكرتاريا ونظرياتها ليثبت (معبر) صورة طبق الأصل لفيلم الحدود الذي كنا نتوقع أن أحداثه ضرب من الخيال لا يشهده واقع ما حتى جاء معبر، وقد قام ببطولته (غوار) الذي لم يجد ترابا ينتمي إليه، فظل مشردا على الحدود بين بلدين منعاه من الدخول عبر منفذيهما بعد ضياع جوازه، والطريف أنه ينتقل بجسده للبلد الآخر بمجرد تجاوز الخط المرسوم بالحجارة إذا هاجمه عسكر الحدود من أي البلدين، وربما كان الفارق بينهما أن غوارا يتحمل تبعات المأساة بينما لا يستطيع (معبر) تحمل أي شيء وإن كان على مستوى تقلبات الطقس فضلا على أنه لم يحصل هو وأمه على رعاية صحية ومتابعة أثناء الولادة، كما يحصل عليها مثلا: النمر الأبيض أو الباندا في حديقة الحيوان على ظهر هذا الكوكب الأشبه بروايتي كفاكا نفسه (المحاكمة) و(المسخ)، لأن المشاهد يصعب تحديدها، فالإرهاب في بلد يعد مقاومة في بلد آخر، والباطل في مدينة يعد فضيلة في مدينة أخرى، والخطأ في قرار يعد صوابا في قرار آخر، والجدار يعد جريمة في بلد كألمانيا وحقاً مشروعاً في بلد كإسرائيل، والشعوب المملوءة بالعقد والإحباط كما قال الشاعر اليوناني كفافي في قصيدته: يرتدي أهل مدينة مهزومة أجمل الثياب، ويذهبون إلى أسوار مدينتهم، يجلسون تحتها من الشروق إلى الغروب بانتظار غزاتهم البرابرة.. ليثبت (معبر) أن العالم يعيش في زمن المنافي بزعامة ألف نيرون، وروما واحدة لا تتحمل كل هذا الاستبداد. وفروسية ألف أخيل وطروادة واحدة لا تتحمل كل هذه النيران.. ويثبت أيضا أن الجسور ونقاط العبور التي شتمتها الكاتبة المبدعة أحلام مستغانمي في رواية (ذاكرة الجسد) تستحق أشدَّ من ذلك حينما يكون ميلاد طفل وموت أمّ في آن واحد، وتكون شاهداً على صرخته بين يديها، وهي تصارع الموت في هذا السواد دون مسكِّنات تعطى للنساء في مثل حالتها.. واقع مؤلم .. باختصار لا مكان فيه لأمثال ليوناردو دافنشي الذي يتولى مهمة شراء الحمائم البيضاء من الأقفاص وإطلاقها من رؤوس الجبال، وقد استبدلوا هذه الحمائم بقاذفات تعبر الأقاليم ذات السيادة ونشروا فوق رؤوس الجبال راداراتهم وجواسيسهم ليدمروا طفلاً في طريقه إلى مدرسة بحر البقر المصرية، أو صور، أو قانا، أو النبطية اللبنانية! ولم ينج من أشيائه وحاجاته إلا الممحاة، لتمسح كل ما كتب بالرصاص من المبادئ والقيم، وتثبت أن التاريخ مزوَّر بفوارسه وفروسياته والجغرافيا ممسوخة ابتداء من خريطة الإدريسي وانتهاء بخريطة الطريق المحرومة من الجاذبية وحنانها مثلما حرمت العسكرتاريا سجيناً من الحرية في زنزانة، أو طليقا في هواء مملوء بالحواجز، ونقاط العبور المعدة سلفا لأعراب يمتهنون الرحيل والتغريب من أمثال بني هلال، وبني فلسطين، وبني بغداد.
صدقاً شعرت بالآسى والخيبة أيضا عندما سمعت أطفالاً من العراق يتحدثون امام مراسل إحدى الفضائيات عن أسلحة الدمار الشامل وأنواع الترسانة البيولوجية والمستنقع السياسي وطحالبه الخضراء وسراخسه المتناسلة في هذا العفن، وهي لا تحمل أي هدف نبيل مما ذكَّرني بمسرحية البير كامو (العادلون) التي أثبتت في تفاصيلها أن الإنسان المخلص يمسخ إلى دكتاتور يكرر أخطاء الطغاة، بأيد قذرة مثل تلك التي وصفها ايضا جون بول سارتر في مسرحيته المشهورة، ولكنها هذه المرة في عالمنا وفي أسرتنا تجاوزت كل حدود المألوف، وخرقت كل القرارات التي صدرت من المنظمات العالمية والهيئات الإنسانية كتقارير أطباء العالم، وأطفال العالم وحالاته طارئة ومنهدسين للشعوب المحتاجة، وكلها أوروبيا يدعمها الاتحاد الأوروبي فضلاًَ عن هيئات الأمم الأخرى في، ثنائية لا تختلف عن بعضها في الحرمان والنفي والاضطهاد والتعسف والتعذيب؛ ليخرج اطفالنا في المستقبل يحملون عقداً نفسية واضطرابات اجتماعية تصدهم عن التفكير والإبداع ومشاركة العالم في التنمية الكونية، وكأن واحدهم شاعر الفترة الستالينية يفتشنكو الذي بلغ الشيخوخة في الثلاثين من عمره؛ ليؤكد أنه ما من زمن مرَّ على العرب مثل هذا الزمن المرّ، فضلاً عما مرَّ بأطفالهم المهددين بأساطير أكثر رعبا مما كان يجري على لسان الجدَّات من أساطير بريئة كالسعلاة والأغوال والتي تحققت بدقة على يد ما سطرته التكنولوجيا الحديثة، واكبر صراخا من طفل ابن المعلوف الذي أزعج الكائنات شوقا لصدر أمه الغائبة.
عذراً أيها العالم.. إن هذا الطفل من صلبنا، ترضعه أمنا مثل كل الأمهات، وتخاف عليه فتحتضنه بعينيها، وتهدهده بكفيها كي تسرق لحظة هدوء لينام فيها بين ذراعيها قليلاً تحت دوي الطائرات وأزيز الدبابات وصوت القذائف في حق مدن تحمل عبق التاريخ والحضارة وأشجار الزيتون والنخل والصفصاف وحينها لا تعجب إذ لم يعد الهواء نقيا ولا التراب طاهراً، ويصبح كل شيء بثمن إلا هذا اللحم الآدمي الأشبه في انتظاره الخلاص من هذه الحبال وهذه القيود بمسرحية بيكيت الشهيرة (في انتظار غودو) لأنه ينتظر حرية لا تأتي على الإطلاق.
ولقد أحسنت الدول العربية في مؤتمرها الأخير في مؤتمر القمة العربية بتونس عندما قررت خطة إقليمية لتحقيق الأهداف العالمية من أجل الطفولة بحلول عام 2015م واستناداً إلى توصيات المؤتمر العربي الثالث حول حقوق الطفل الذي عقد في تونس في يناير 2004م وهي توصيات تلزم الدول العربية بوضع خطط عمل وطنية تخصص لها الموارد لتحقيقها وبخاصة أن التحديات في عالمنا العربي كبيرة إذ تتمثل فيما يلي:
1 - نصف مليون طفل لا يعيشون حتى نهاية عامهم الأول سنويا.
2 - أربعة ملايين امرأة يلدن من دون كوادر طبية مدربة.
3 - سبعة ملايين طفل دون الخامسة تفتك بهم الأمراض كالحصبة وغيرها.
4 - سبعة ملايين طفل يعانون من سوء التغذية.
5 - سبعة ملايين ونصف مليون طفل لم يوفر لهم التعليم الابتدائي.
6 - ثلاثة عشر مليونا يعملون وهم دون سن العاشرة.
ولازلت أتذكر ذلك التقرير المبكي المعد من قبل فريق قناة المجد الفضائية جزاهم الله خيراً عن الاطفال العاملين في بعض البلاد العربية، وأثناء حديثهم عن أسرهم ومدنهم التي هربوا منها بحثا عن عمل يكفيهم مؤنة السؤال تختلط دموعهم ببراءتهم في منظر يثير الشفقة والألم في النفس البشرية، وإن تجاوزنا أطفال العراق الذين يلعبون ببقايا السلاح وأطفال فلسطين المحرومين من الميلاد والموت، نجد أن عدداً كبيراً من أطفال السودان تأثروا بالصراع الدائر في إقليم دارفور حسبما أعلن صندوق الأمم المتحدة لرعاية الأطفال (اليونيسيف) إذ ذكر أن جيلا من الأطفال الناجين يعدون ضحايا حرب وشهود عنف واغتصاب، ويعد قتل آبائهم وانتهاك حرمة أمهاتهم أمامهم على يد العصابات المتطرفة والمرتزقة كارثة مقارنة بما لدى أطفال العالم من وسائل التربية والترفيه مما يعطي سقوطا إنسانيا قبل أي سقوط سياسي يصغر أمام قامة طفل هارب من الجحيم، وهو لا يحمل أي هوية أو نظرة مشرقة لمستقبل قادم في ظل الحرمان من العائلة، وبعدها يصعب إعادة تأهيل هؤلاء الضحايا من خلال الثقة وبناء النفس الممزقة، ومهما حاولت اللجان الدولية ذلك فإنها لا تفلح في ظل عقول عنيفة تبحث عن السيطرة تحت أي مبدأ.ميكافيلي يؤمن أن الغاية تبرر الوسيلة حتى وإن عززت نظريا القواعد التي تحمي الأطفال من الحروب، وبصفة خاصة حظر تجنيدهم ومشاركتهم في النزاعات المسلحة والحق في الحفاظ على وحدة الأسرة والحصول على الرعاية الطبية والنفسية والاجتماعية لأن تلك المبادئ ستحطمها أول قذيفة طائشة في حرب لا تفرق بين ضحاياها في هذا المستنقع الذي تتساقط فيه الأحلام الصغيرة أمام الترسانة الضخمة التي صادرت دفء الأسرة وفضاء الحرية بلا مسوغ حتى صنعت متحفا للاشباح والأحافير وغاية طموحهم البكاء على مصيرهم ومصير والديهم بطريقة تليق بهذا اليتم والتشرد؛ مما يستحيل فيه علاجهم من هذا التشويه النفسي الذي ينعكس على نفس الوطن ومواطنيه مستقبلا، في مقابل صورة تبرز أطفال العالم الآخر ينعمون بالحلوى والشوكولاته والألعاب والملابس ذات الماركات العالمية، ولم يقتصر الأمر على هذا بل صنعوا لهم جمهوريات تناسب عالمهم مثل ديزني الشهيرة ذات المدن السياحية، والأدهى من ذلك لو أن مراهقاً صغيراً دخل مدرسة بقطعة سلاح لنقلت وسائل الإعلام العالمية وفضائياته ذلك المشهد مصورة حجم الكارثة النفسية على أولئك الأطفال. فمتى يشعر أطفالنا بعالمهم، ومتى يحصلون على رعاية تضمن لهم مدارس صالحة للتعليم البشري، ومياهاً غير ملوثة تليق بالاستعمال الآدمي، وغرف نوم وحقائب مدرسية وألواناً زاهية؟! ومتى يتحرر عالمهم المسجون قسرياً في غياهب متحف يبعث الدهشة من قناديله وحاجاته التي تؤكد ابتلاء الأمة بمتعة الخطابات الإعلامية وإغراء اللقاءات الفضائية ورصد الميزانيات الدفاعية لحروب خاسرة على حسابهم تؤكد أن اطفالنا لن يشفوا من هذا التوفئيد وإسهاله المزمن في أقسى مرحلة من مراحل التاريخ والذي لف طغاته وحروبهم المستمرة الإنسانية بورق على طريقة ذلك السيجار الكوبي ليشهدوا على أنفسهم بإفراز كائنات بأبعاد هلامية تتطاير على شكل دوائر لا تكتمل كانت شاهدة بمجموعاتها الكثيرة على تلك المقابر الجماعية والإبادة وأدوات التعذيب في غياهب السجون التي لم يشهد التاريخ مثلها في حق جماهير مغلوبة على أمرها، وهي تسير من شقاء صعب إلى شقاء مخيف. تحت وطأة سؤال كبير منذ عقود لم تغادر هذا الابتلاء المودرن ضد أطفال ونساء وعجزة يقتلون وهم لم يمثلوا حزبا أو جمعية أو منظمة، فمتى تصمت فوهات المدافع لينام معبر؟ ومتى تلغى نقاط العبور ليولد معبر؟! .
والله من وراء القصد.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved