وقفت مندهشاً أمام الإعلان الذي نشرته صحيفة الوطن يوم الاثنين 16 جمادى الآخرة الماضي تحت عنوان (عهد ووعد) على صفحة كاملة؟؟، وقد حمل الإعلان توقيع شيوخ وأعيان ونواب القبائل وأعضاء مجلس المنطقة والمجالس المحلية، لكن مضمون نهاية الإعلان قد شمل المشايخ والأعيان ورجال الأعمال ومثقفي منطقة عسير. مصدر الدهشة كان من مضمون ومحتوى وعبارات الإعلان؟؟ الذي كان في أساس بنيانه الامتعاض من جرأة نفر من النكرات - كما سماهم الإعلان - على استغلال اسم أهالي عسير للتهجم والإساءة للإدارات الحكومية والأهلية في المنطقة من خلال ما يُنشر في بعض مواقع الإنترنت للتقليل من شأن الإنجازات التنموية الضخمة التي حققتها الدولة، وقد ربط الإعلان جزئية من الامتعاض والاستياء بما (نشره أحد اتباع الخوارج والمروّجين للفكر المنحرف في بلادنا على موقع له في الإنترنت من تهجّم بذيء ووقح ضد قادة بلادنا الأجلاء وأمير المنطقة).. وقد ربط الإعلان مقابلة بعض الأعيان كما يبدو لولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز للشكوى من هكذا امتعاض، وأن سموه قد أكد بما أثلج صدور من قابلوه و(جدد الثقة في أبنائه أهالي منطقة عسير وإداراتها الحكومية والأهلية وأميرها) إلى آخر ما جاء في الإعلان من عبارات إنشائية لا فكر فيها سوى التّشكي من مجاهيل؟ وهنا فإنني وإن كنت أعتز بأصل الانتماء القبلي لتلك المنطقة كما هو اعتزازي بمولدي في عاصمة الوطن وأولادي وأحفادي فإنني أكثر اعتزازاً بانتسابي لوطن القبلة والاستقبال وأرومة العروبة، ومن هنا أُسجل تحفظي وعدم قبولي بالإعلان فكراً ومساراً وفق المعطيات التالية:
* لا أعلم من الذي أدخل في مفردات خطابنا الفكري عبارات التجديد سواء في الدين أو الثقافة، فالحديث الذي يشير إلى أن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد أمر الدين، هو حديث معلول في سنن أبي داود كما دلّني عليه سماحة المفتي العام للمملكة، ويمكن الرجوع إلى المصدر، ثم العجب أن الأمة لم يظهر فيها على رأس كل قرن مجدد إلا من كان من أدعياء المهدية والهادوية أو جهيمان ورفيقه القحطاني عام 1400هـ حين احتلالهم الحرم المكي وقتلهم المصلين والحجاج، وتعطيل الصلوات مدة أسبوعين في سابقة نسأل الله ألا تعود.
أما في الثقافة الشعبية فقد لاحظت شيوع إعلانات الشكر للقيادة السياسية على إعادة الثقة لمن يُعاد توزيرهم أو تعيينهم في وظائف عامة؟؟ ولا أعلم كيف تُعاد الثقة، هل هي مقيَّدة بزمن شغل الوظيفة العامة؟؟ فإذا ما أُعفي شاغل الوظيفة أو تقاعد أو خرج في تشكيل وزاري يكون خاوياً من الثقة؟؟ هل إعادة التوزير أو العمل في الوظيفة بأمر من ولي الأمر هي تجديد للثقة؟؟ لماذا؟؟ الثقة هي سمة ومكتسب في الشخص.. مهارة أداء وتخصص معرفي ومهني ممتزج بخلق وأمانة وقدوة واقتداء؟ لقد كنت ولا أزال أشفق على الأمراء والوزراء والقياديين الذين تصدر مراسم تكليف لهم بالاستمرار في المناصب، حين تُنشر الإعلانات بالتهنئة على إعادة الثقة وتعيينهم؟؟، ولا أعلم المشاعر التي تنتاب بعضهم وهم يرون وصفهم بإعادة الثقة، وكأنهم قد فرطوا في أداء ما كانوا يؤدون من أعمال فسُحبت منهم الثقة وأُعيدت؟؟ سحب الثقة عمل قانوني يتم وفق أطر وإجراءات برلمانية مع الحكومات أو من خلال محاكمات ومرافعات فيما له صلة بالإخلال بالأداء ولا يتم هذا إلا بحكم قضائي؟؟
* منطقة عسير هي أس ضخم من أسس قيام هذا الكيان السياسي الكبير الذي تستظل تحت لوائه غالبية أجزاء شبه الجزيرة العربية، ومنذ قيام الاتحاد الوطني الكبير هذا.. المملكة العربية السعودية فلم يعد هنالك مقام ولا مكان لفكر التشطير والتشرذم فقد بات الوطن من الموسم جنوباً إلى حقل على امتداد ساحل البحر الأحمر شمالاً، ومن جدة الخير غرباً إلى الدمام على الخليج العربي شرقاً مروراً بواسطة العقد الرياض عاصمة الوطن الإدارية، بات هذا الوطن لي سجادة صلاة، وبساط صلة واتصال، متلوِّناً بألوان الطيف في تنوّع ثقافي قوامه أننا قبلة للامة الإسلامية وشرف لنا خدمة الحرمين وما يفد إليهما من ضيوف الرحمن حجاج بيت الله الحرام.
* إذا كان الأجداد قد مارسوا أدوار الريادة في العمل والمعاونة والمساندة والقتال مع كل الخيرين من أطراف الوطن في كل مكان بتموين وتسلح ذاتي وتطوع مدني، حر الخيار والاختيار، لقيام كياننا الوحدوي تحت قيادة الملك المؤسس، فإن الأجيال المتعاقبة منذ رحيل أغلبية قادة ملحمة البناء والتأسيس والاتحاد، هم ورثة ينمون ويزيدون في حقول ومجالات الاستثمار من أجل الحفاظ على مكتسبات البناة وقادة التأسيس، وهذا هو ما يمارس اليوم من خلال التنامي الجميل لإعداد الأجيال المتسلّحة بالعلم والرغبة في العمل والإنتاج بجودة ومعايير شاملة.
* هذان العنصران هما من أهم عناصر الثقة التي تتسع مساراتها بوجود الكفاءات المتعمقة في العمل والإنتاج في شتى الحقول، والتخصص العلمي والمهني وتراكم الخبرات التي تتجدد فيها المهارات وتتطور الممارسات في الإدارة الشاملة لتنمية الوطن في كل زمان ومكان، وهذه ثقة لا تبلى فتجدد لأن الأجيال تتوالد وطالما بقي الحفاظ على رعاية وصيانة المكتسبات، فإن التوالي هو مسار متجذِّر ينمو بثمار أكثر نقاوة وسلامة فالأرض تعطي إنتاجاً وفيراً على قدر ما تُعطى من خدمة وحراث وحراك!!
* الإعلان قد جاء بخلاف النهج الفكري والقيادي السياسي لهذا الوطن شعباً وثقافة وقيادة، ألا وهو التعامل بالوضوح الشامل وفي ضوء النور، ولم نعهد التعامل مع الخفافيش وطيور الظلام وأوكار الدجل والمياه العفنة.. ولعل رفض الحوار مع شرذمة الخوارج على الشعب والأمة ووحدتها وقبل ذلك دينها النقي، هو المسار والخيار الفكري في رفض الحوار رغم وجود دعاة واهمين يرون سلوك هذا النهج.. وهنا فإن ما جاء في الإعلان هو دعوة مستغربة للحوار مع مجاهيل يخشون النور، وحرية الحوار الحر الصريح، وإلا لما غابوا عن مسارب ومشارب الفكر والحوار الذي يتنامى في عسير وفي سائر أرجاء الوطن، والعينة المثال هو ما يجري من محاضرات وندوات في كل المحافل الصيفية في المساجد والمسارح.. في الجامعات ومساحات الوطن؟ بل وفي مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني الذي بات مؤسسة ثقافية رسمية من مؤسسات الوطن.. الإعلان هذا عيب ما كان يجب أن يتم التخاطب مع الجبناء والخائرين الخائفين من الحوار والنقاش، من كان له موقع صريح يناقش قضايا فكرية، بصريح الاسم والعبارة، فهذا نجلّه ونُقدِّر جهده واجتهاده، حتى وإن اختلفنا معه في بعض ما يطرح رؤية وروية، لكن الاحترام لمن يعمل في النور، وتحت الشمس هو ما يجب أن يُحظى به من يسلكه.. من يكتب في الإنترنت ببذاءة ليس من حق العقلاء والشرفاء النزول إلى مستواه، فالمؤمن ليس لعّاناً ولا فاحشاً بذيئاً، والخلق والإباء يمنعان الفكر الراقي من الانحدار إلى السفاسف، ولا يجوز شرعاً ولا عقلاً النزول إلى العمل في الظلام، والكتابة على الجدران بالفحم أو الطباشير بلغة شوارعية.
* كل عمل يؤديه البشر هو عمل معرَّض للنقد الإيجابي والسلبي، وكذلك الحال مع كل من يُولى مسؤولية أداء الأعمال، وهنا فإذا كان قَدَر الأمير خالد الفيصل أن قد ولاه ولي الأمر زمام الإدارة للحكم المحلي في منطقة عسير، فهو رجل مؤهل ومستحق للولاية، فالتأهيل الأكاديمي المعرفي مقترن بخبرة العمل الإداري منذ كان مديراً عاماً لرعاية الشباب تحت رئاسة وزير العمل، حتى تم توليته مسؤولية الإمارة منذ أكثر من ثلث قرن، وقد اكتسب الرجل خبرة تراكمية تعلُّماً وممارسة، كان التعلُّم من خلال ما تلقاه من توصيات من والده الملك فيصل - رحمه الله - الذي لم يزد على أن قال له وهو يرتقي سلم منزله في الرياض مودِّعاً ابنه أمير عسير سوى قوله: راع الله يا خالد؟ وهذه لعمري وصية وتعليم تقض المضاجع وتصدع العقول فقد جعل الملك الإنسان رب العالمين هو الرقيب فوق كل نظام أو توجيه أبوي أو إداري، ثم لقد عمل الأمير مع من سبقه في إدارة الحكم المحلي في عدة مواقع من الوطن، ذلكم هو الأمير إبراهيم البراهيم - رحمه الله -، وقد صرَّح الأمير خالد وكتب أنه تعلَّم فن الإمارة من الأمير ابن إبراهيم؟ ولاشك أن الأمير قد أفاد من مرؤوسيه في الإمارة من الأجيال التي تعاقبت على الأعمال في إمارة عسير سواء في الجهاز المركزي في أبها العاصمة الإدارية للمنطقة أو المحافظات المرتبطة بها في السهل والجبل؟
* لقد حدثت أخطاء في ممارسة الأداء، وهي أخطاء اجتهادية، لم ينكر الأمير حدوثها، بل لقد كان متقبِّلاً للنقد المنشور في الصحف، وأضرب المثال بما كتبته من نقد تحت عنوان (عسير تجربة ميدان لا شهادة عيان) لكتابة شاهد عيان الذي حاول فيه توثيق مسيرة التنمية في عسير خلال 30 عاماً، وقد نشرت (الجزيرة) نقدي عام 1420هـ، وقد قلت فيه إن التنمية لم تتجاوز نطاق أبها الحضرية في إطارها الجغرافي الذي لم يتجاوز 50*50 كيلاً، وإن أغلب المشروعات التي قامت خارج هذا النطاق كانت قد أُقيمت على أراضٍ تبرع بها المواطنون، وإن تعيين محافظين ورؤساء مراكز متعلمين مكان الأُميين قد ساهم في التطوير، وغير هذا من النقد الصريح الواضح، وما زلت أذكر مقالي الذي نشرته (الجزيرة) أيضاً في نفس العام بعنوان: خالد الفيصل أدعوك للاعتزال، وما دار حوله من عتاب بعض المحبين وفي مقدمتهم معالي الصديق عبد الرحمن السدحان، بخلاف القطط السمان التي حسبت أنها قد باتت ذات ثقل في موقع حراسة البوابات ومنع حرية انسيابية المعلومات والصلة والاتصال والتواصل الفكري والشخصي مع الأمير، وما مارسته من تشويه متعمّد في التفسير والبحث في النوايا، ولا أنسى أن مقالي الذي نشرته (الاقتصادية) عام 1420هـ أيضاً تحت عنوان الإعراب في عسير لمه؟؟ وكان محتواه ومضمونه ضمن إطار أن عسير ليس بها عجمة حتى تستعرب، وذلك في نقد لمشروع تجريبي لتدريس الطلاب في المدارس باللغة الفصحى، وقد علَّق عليه أستاذ الجيل حمد الجاسر - غفر الله له - في مقال طويل في صحيفة عكاظ بتاريخ 7- 8-1420هـ، وكذلك مقالي تحت عنوان هل أبها أبهى ما في عسير والذي أنكرت فيه على معالي أستاذنا الدكتور محمد عبده يماني المفكر الرائد، ولهه بجمال أبها البهية، معرضاً أن لها وصيفات لا يقللن فتنة وجمالاً عن أبهى، وأن الإسلام قد أباح التعدد، ونطلب من الأمير خالد أن يعدد، ولا نسأله قس ميل القلب؟؟ وغير هذا الكثير من النقد المنهجي البنَّاء القوي الصريح، قد ورد في كثير من المداخلات الفكرية أثناء الندوات والمحاضرات داخل المملكة وخارجها ولعل آخرها ما كان في ندوة المنهج الخفي التي عُقدت في فندق قصر أبها الشهر الماضي، وما أعقبها من نشر مداخلتي بتوسع أكبر في مجلة الأربعاء التي تصدر عن صحيفة (المدينة). لقد كان هذا النقد مني، ولا أشك أن هنالك نقداً أكثر صراحة ومنطقية قد قام به غيري من الأخيار أمثال الشيخ علي بن جميعة، الحائلي الأنموذج الصافي لألوان الطيف الوطني، والأخ الجليل الزميل الدكتور محمد بن عبد الله آل زلفة القحطاني والأخ محافظ بيشة الزميل القديم الجديد حسين بن عبد الله آل زلفة، واللواء المتقاعد سعيد بن محمد أبو ملحة، وابن عمه رجل الأعمال عبد الله بن سعيد أبو ملحة، ورجل الأعمال محمد عبد الرحمن باحص، ورجل الاقتصاد العالمي صالح كامل وغيرهم من كواكب الوطن ذوي الرأي الوطني الحر النزيه الصريح القوي. أنا شخصياً لم يسبق أن سمعت من الأمير خالد أي عتب أو لوم، بل بالعكس، كنت أجد تشكّر الأمير، والترحيب بي كلما زرته في مكتبه في الإمارة أو قابلته، وهنا فلم يكن ولن يكون الأمير فوق النقد، هو موظف دولة، يعمل من أجل الخدمة العامة، وقد لا يوافق الممثل المالي في الإمارة على إجازة صرف نفقة مالية إذا ما كانت الإجراءات النظامية لم تستكمل ولا يملك الأمير سوى الانصياع لمتطلبات النظام، ولا أنسى موقف ذلك الرجل التهامي الشهم الذي حضر إلى الأمير للشكوى، واعتذار الأمير منه أن مكان الشكوى إدارياً خارج نطاق منطقة عسير، ولم يقتنع الشاكي باعتذار الأمير، وعندما بقي الأمير على موقفه النظامي، قال الرجل ألست ابن سعود، قال بلى، قال (فكيف أشكي عليك وتقول خارج صلاحياتك)؟ فردَّ الأمير هذا النظام، فردَّ الرجل الشره (علي أني جيت أشكي عليك)؟؟
* أنا أعلن تحفظي على الإعلان منهجاً ومضموناً وفكرة وفكراً، فثقة ولي العهد لم تسحب من أي سعودي في الوطن كي تجدد، وكذلك هي بين الشعب والوطن أرضاً وقيادة، فمسار حياتنا وحراكنا أشبه بالنهر وروافده تسير في وتيرة متوالية الجريان والعذوبة، ولا يضيرنا وجود الطحالب ولا نقيق الضفادع.
* في ظني أن ما سبّب التمترس خلف المواقع الخفية، والأسماء المتخفيّة هو الخوف من تنوّع ألوان الطبيعة والإنسان والشجر، ومن شدة الضوء والنور؟ لكن مثلما الزيتون في أرض الجنوب والشمال ضوء وضياء، فإن مشكاة الإضاءة في مكة ستظل مبهرة لذوي العشى والعمش، وخفافيش الظلام، وحراس البوابات ممن يظنون أنهم ما زالوا يستطيعون حجب المعلومات، فلقد بات الفضاء مباحاً ومتاحاً لمن يملك الاهتداء.
|