على ضوء تصوره الأدب الإسلامي بأنه أدب مثالي ومدينة فاضلة لا يعيش فيها إنسان كما يقول، يتساءل الصديق العزيز د. محمد العوين داعياً الأدباء الإسلاميين إلى (ابتداع نصوص راقية تصور الإنسان في حالاته كلها، بخيره وشره، بأشواقه وأتواقه، بقوته وضعفه..) (ص51)، ثم يسأل (فهل تصلح هذه الأمة بصلاح قصيدة أو بخلو قصة من مشهد غرامي؟).
وهذا تساؤل في موضعه؛ لأن الكثير من الناس يظنون بالأدب الإسلامي هذه المثالية، ظنهم بالإسلام نفسه، فكما يظنون أن المسلم يجب أن يكون كاملاً - والكمال لله - يظنون أن الأدب الإسلامي يدعو لتصوير البشر بهذه الصورة المثالية المخالفة للتصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون، وإذا قبلنا هذا الفهم غير الواقعي للأدب الإسلامي من غيره من الناس فإني لا أقبله من باحث وناقد يحمل رسالة، وأديب مطلع على الأدب الإسلامي مثل الصديق العزيز د. محمد العوين.
وإذا كان بعض الأدباء أو النقاد الإسلاميين يظنون بالأدب الإسلامي هذه المثالية التي لا تنطلق من التصور الإسلامي، فإنهم بعيدون -في رأيي- عن فهم الأدب الإسلامي وعن فهم طبيعة التصور الإسلامي للإنسان، الذي قال الله تعالى فيه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}؛ لأن الأدب الإسلامي ورابطته العالمية يلتزمان بالتصور الإسلامي الصحيح.
فالتعبير عن العاطفة والوجدان الإنساني من أهم موضوعات الأدب، بل أهمها على الاطلاق، ولا يمكن أن نتصور أدباً يتجاهل التعبير الفني عن هذه العاطفة في قوتها وضعفها وفي استقامتها وانحرافها، مع ملاحظة أن موضوعات الحب ليست انحرافاً؛ لأنها حقيقة بشرية، لكن الفرق -في رأيي- أن الأديب صاحب الرسالة سواء كان مسلماً أو غير مسلم يهتم بتصوير (المشاعر) بشكل يؤثر في النفس ويضيف للتجربة الشعورية عند القارئ ما يغيرها سلباً أو ايجاباً أما الأديب الذي يهتم بتصوير (المشاهد الحسية)، فلا يهدف إلا إلى الاثارة الحسية التي توقظ الغريزية فقط، ولا يترك أثراً في النفس نتعلم منه أو نفكر فيه.
ويحضرني هنا أن أستشهد بكلمة كتبها سيد قطب عن موقف الأدب الإسلامي من قضايا العاطفة والضعف البشري قبل أن يظهر المصطلح وقبل أن ترتفع الأصوات بالحديث عن الأدب الإسلامي، يقول في كتابه (في التاريخ فكرة ومنهاج): (.. الأدب أو الفن المنبثق عن التصور الإسلامي للحياة قد يلم أحياناً بلحظات الضعف البشري، ولكنه لا يلبث عندها إلا ريثما يحاول رفع البشرية من وهدة هذه اللحظات، واطلاقها من عقال الضرورة وضغطها، وهو لا يصنع هذا متأثراً بالمعنى الضيق لمفهوم الأخلاق، وإنما يضعه متأثراً بطبيعة التصور الإسلامي للحياة، وبطبيعة الإسلام ذاته في تطوير الحياة وترقيتها وعدم الاكتفاء بواقعها في لحظة أو فترة) (ص17).
ويؤكد سيد قطب على ثلاث حقائق أساسية يجب أن تتوافر أولها: (ليست الخطب الوعظية هي سبيل الأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي، فهذه وسيلة بدائية وليست عملاً فنياً). ثانيها: (ليست وظيفة الأدب أو الفن تزوير الشخصية الإنسانية أو الواقع الحيوي وابراز الحياة البشرية في صورة مثالية لا وجود لها). ثالثها: (الصدق في تصوير المقدرات الكامنة أو الظاهرة في الإنسان، والصدق في تصوير أهداف الحياة اللائقة بعالم من البشر، لا بقطيع من الذئاب) (ص18).
هذه نقاط واقعية لسيد قطب، الذي نختلف معه في آرائه الفكرية، وهذه النقاط الواقعية دعا إليها الصديق د. العوين في نقده لرابطة الأدب الإسلامي، وهو ما تدعو إليه رابطة الأدب الإسلامي، ولا يمكن ان ينكرها إنسان يؤمن بالإسلام عقيدة ومنهاج حياة، ولابد من القول بأن هذه المفاهيم ليست من اجتهاد أحد أو ابداع أحد، وإنما هي صميم التصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون، ولله الفضل والمنة؛ ولأن الله رب العالمين وليس رب المسلمين وحدهم؛ ولأن الإسلام دين الفطرة السليمة، فإن هذه المفاهيم في عمومها موجودة في الأدب العالمي الإنساني، وربما أكثر من وجودها في ابداع بعض الأدباء المسلمين.. وهذه نقطة لقاء وجسر عبور بين الأدب العالمي والأدب الإسلامي، وقد ضرب محمد قطب في كتاب (منهج الفن الإسلامي) أمثلة على ذلك.
ولهذا فإني لا أرى خلافاً بين الصديق العزيز د. محمد العوين والمبادئ التي تدعو إليها رابطة الأدب الإسلامي، ولا أرى اختلافاً بين ما يدعو إليه في الأدب الإسلامي وبين حقيقة الأدب الإسلامي نفسه، فهو يدعو إلى أدب إسلامي واقعي ينطلق من واقعية الإسلام وتقدير للإنسان في أحواله، والأدب الإسلامي الصحيح الجدير بهذا الاسم لا يقول خلاف ذلك، ورابطة العالمية لا تدعو لغير ذلك.
فما المشكلة إذن؟ المشكلة في رأيي في (الفهم) و(التفاهم).. ليس عيباً ولا حراماً أن نخطئ في (الفهم) شريطة ألا نسفه آراء من اعتقدنا أننا نختلف معهم ونضع احتمال أن نكون على خطأ، وواجب الطرف الآخر أيضا ان يحسن الظن بنا عندما نخطئ ويعيدنا إلى الصواب برفق (فما دخل اللين في شيء إلا زانه)، وبدون حسن الظن والرفق والتسامح لا يمكن أن نقيم جسراً متيناً للتفاهم مع من نختلف معه في الاجتهاد.. وجدير بنا جميعا أن تتسع صدورنا للآخر، وان يكون الحوار بالتي هي أحسن هو طريق (التفهيم) و(التفاهم) والتقارب، وهو مدعاة إلى أن نتعاون فيما نتفق فيه، وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما نختلف حوله، وهذا خلق إسلامي عظيم، وسلوك حضاري راقٍ، جدير جدير بأن يتبعه المسلم مع الآخرين مسلمين أو غير مسلمين، أساتذة أو تلاميذ.. وإذا صدقت النوايا التي تجعل المرء يتمنى ان يجعل الله الحق على لسان أخيه، تحقق نكران الذات، وأصبح عمل المسلم في حالتي غضبه ورضاه واختلافه موافقته خالصاً لله لا يبتغي إلا مرضاته وحده، فإن اجتهد وأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران.
وأسأل الله أن يكون ما كتبه أخي العزيز د. محمد عبدالله العوين، وما رد به عليه أستاذنا الرائد د. عبدالقدوس أبو صالح وما خطه قلمي من إيضاحات في إطار هذه (النية)، وعلى قدر صدق النوايا يوفق الله عباده إلى الصواب ويبارك في الأعمال {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}.
|