حين كنت أذهب يومياً لما يزيد على ثلاثة أشهر لأنقب في أرشيف الصحف لهدف بحثي بمكتبة معهد الإدارة العامرة بما غلت قيمته وخف حمله من المصادر المعرفية اكتشفت في صحفنا اليومية كنوزاً مطمورة من التجربة الأدبية والحياتية والاجتماعية لكتاب وأدباء وصحفيي أجيال كانت مجتهدة ومشغولة بقضايا عصرها إلا أنها غادرتنا بصمت أو بصخب ولم تعد أجيال الحاضر والأمس القريب تعرف أو تسمع شيئاً عنها أو عن كفاحها، وهذا مثلما يحدث اليوم إذ أن الجيل الجديد للكتابة الإلكترونية على المواقع الشبكية بالكاد يعرف شيئاً عن أجيال السبعينيات والثمانينيات الأدبية والشعرية تلك التي كانت باجتراحاتها الأدبية تملأ الأغصان بعصافير النصوص الجديدة، فمن منا يعرف إلا النزر اليسير وبضع قصائد مغناة عن شاعر كان يسمي نفسه محروم، وهو شاعر الشك وحلم الطفولة الأمير عبدالله الفيصل، من يعلم أن الشاعر الذي قد لا يعرفه إلا عدد محدود منا بديوان (أجنحة بلا ريش) كان يكتب في قضايا ساخنة في المجال الاجتماعي والسياسي تضاهي شعره وتماهي ما كتبه الأديب الناقد عبدالله عبدالجبار في مجال الكتابة في النقد الشعري والأدبي ككتاباته المبكرة عن تيارات التجديد الإبداعي في الأدب والشعر السعودي.
وقد كان مما وقعت عليه يدي خلال النبش في أرشيف الصحف القديمة كتابات كأنها مكتوبة اليوم، كتبها صاحب الأجنحة الشاعر حسين سرحان من نحو أربعين سنة في الشورى والانتخابات وقضايا سياسية وخارجية أخرى تعبر عن مواقف وطنية شجاعة.
كما كان مما وقع في يدي قصائد ومواقف متوهجة للشاعر حمزة شحاته، وكذلك عثرت في صحف تلك الحقب التاريخية المبتعدة على كتابات اجتماعية متنوعة ومتعددة المشارب في المرأة، وفي التعليم وفي القضايا السياسية لذلك العصر من جيل أحد السباعي إلى الأجيال الأقرب من جيل محمد حسين زيدان وعزيز ضيا وضياء الدين رجب، وكان هناك لمفاجأتي في ذلك الزمن شعر اجتماعي ساخر للشاعر أحمد قنديل كالشعر الاجتماعي الذي يشتهر به اليوم الشاعر عبدالرحمن بن مساعد راسماً صوراً كاريكاتيرية تهكمية شفافة وضاحكة عن آلام اجتماعية مبرحة.
وفي أرشيف مجلة اليمامة وجدت أيضاً ما أدهشني من التاريخ الاجتماعي والأدبي الذي يختفي في غياهب المحفوظات الأرشيفية، ففي عهد مؤسس مجلة اليمامة شيخنا العلامة حمد الجاسر هناك تلك الكتابات المتحاورة في تعليم البنات وفي فتح الجامعات، وفي مرحلة لاحقة في عهد رئاسة الأستاذ محمد الشدي نجد كثيراً من الأسماء التي أصبحت تحمل جزءًا من الشاغل الثقافي على كتفها كانت لتوها تطل برأسها من ذلك الباب، ولعل الأستاذ علوي الصافي في جسر التنهدات بالمجلة الثقافية للجزيرة يحقق تجربته اليمامية لتلك المرحلة التي كانت مطلعاً لكثير من التحولات الصحفية والأدبية الجادة والجديدة.
* فما الذي أثار هذه الشجون التي لم أكن أعرف أنني أتستر عليها تحت ثيابي لأستعيد في صيف هذا القيظ الحرور من كاميرا الذاكرة تلك الصور الأرشيفية التي توشك أن تضمحل؟
لابد أن هناك أكثر من مثير لهذا الشجن إلا أنني في اللحظة الراهنة للكتابة لا أستطيع أن أحدد منها إلا ثلاثة أسباب ليس إلا.
* على موتي وميلادي:
السبب الأول هو أنني في مطلع هذا الصيف شعرت بالحنين لاسترجاع بعض قصائد الشاعر بدر بن عبدالمحسن ومنها قصيدة (طفلة تحت المطر) وقصيدة (وترحل) وكنت أظنها مخزنة في الصندوق الأسود أو الألبوم القزحي من ملفات الذكرى غير أنني لم أعثر إلا على ملفات محاها الوقت بكثير من القسوة ولم يترك إلا نتفاً غائمة من شظاياها (كتبت اسمك على الوادي على موتي وميلادي)، ولم أكن أدري أين أجد هذه القصائد مكتوبة إذ كنت أحن لقراءتها ولم أكن في مزاج سماعها مغناة، وإن كانت حتى تلك الأشرطة الصوتية لها ليست في متناول اليد على حد علمي، ولذا فقد شعرت بالحنق من كل ذلك الجيل بما فيهم نفسي الذي ضيع إبداع مراحل متعددة تمثل الجانب الأدبي والشعري من التاريخ الاجتماعي وليس فقط الجانب الذاتي لتجارب شخصية، وتركه مشرداً هائماً في أرشيف الصحف أو في قصاصات جرفتها رياح التحولات أو داخل أوراق ودفاتر عتيقة كعزايم المحو التي بللها الماء أو الدمع.
* حرقة الغياب:
السبب الثاني: هو أنني في لقاء غير بعيد هذا العام جمعني بالشاعرة الرائعة غيداء المنفى أو غجرية الريف كما تتقاسم نفسها مع الاسمين معاً، وبحضور الناقدة المبدعة د. فاطمة الوهيبي وعدد من الوجوه النسائية الشابة المهتمة بالأدب دخلنا في نوبة ألم جماعي من أخاديد الفراغ المريع الذي يحفره الغياب في ذاكرة الأجيال عندما تفتقد كتاباً يحفر البصمات الإبداعية للأجيال لتتبادل النظر في مرايا تلاحق الحقب، ونفس الموقف يكرر آلامه فكثير من الشباب اليوم يعرفون عدداً من الكتاب بأسمائهم لا بإنتاجهم لأن إنتاجهم مهجج في أرشيف الصحف وليس متجسداً في كتاب يمكن العودة إليه أو إعادة طبعة.
ومرة أخرى كنت أشعر بالسخط على التقصير الشخصي وإن كنت كمتخصصة في علم الاجتماع لا أستطيع أن أتغاضى عن القصور الاجتماعي والثقافي العام.
* بالفصيح:
السبب الثالث لهذا الشجن هو العنوان المشاغب الجميل والجاد الذي استعرته عنواناً لمقالي من كتاب الأستاذ الأديب والقاص عبدالله الناصر بعنوان (بالفصيح) كتابات معاندة الذي وصلني من لندن بعد أن صدر عام 2003م عن دار رياض الريس ببيروت.
والكتاب ببساطة مركبة هو عدد كبير من المقالات التي يمتد عمرها لسنوات مما كتب في العمود الأسبوعي بجريدة الرياض ليوم الجمعة بنفس ذلك العنوان.
وقد أدهشني أن الكتاب لم يكن مجرد تجميع عشوائي لمقالات متنافرة ولكنه كان مبوباً تبويباً أدبياً تنسجم فيه قائمة المواضيع مع عناوينها فجاء الكتاب في عدة أجزاء منها على سبيل المثال: الجزء السياسي.
وقد حمل اسماً موحياً هو (هواجس سياسية)، الجزء الثقافي، (هواجس ثقافية)، (هواجس اجتماعية)، وهكذا حمل الكتاب رائحة التحقيب الاجتماعي والثقافي للمجتمع السعودي، فمرة نشم العرفج والكادي ومرة تشاكس أصابعنا عيدان التبن في بيوت الطين ورؤوس الأشواك، ومرة تنقر على الورق حوافر الغزلان وأخرى نسمع إيقاع الحجر الفلسطيني أو تنهش جلودنا حيتان الحروب المطبقة على أفق المنطقة وفي النهاية يهب صبا نجد ويجدد جروحنا (إذ قل لنجد أن تودعا).
أعلم أن موضوع تجميع الكتابات التي تكتب في الصحف وطبعها في كتاب له بعض المحاذير وقد يكون عليه كثير من التحفظات التي أجدني أنحاز إليها في كثير من الأحيان ولكن تلك المحاذير والتحفظات لا يمكن أن تطلق على إطلاقها، ويبقى أن المقياس الصارم هنا هو أن يكون قرار النشر كالموت نقاد ونفاذ أي لا بد من الانتقاء الشديد عند المخاطرة بهذا القرار.
وتعتبر الأديبة والروائية غادة السمان من أول من فتح هذه الفلوات في الحفر على الماء لئلا تمحو يد الزمان أنفاسها من عناصر الهواء، ونجحت بجنون فكل من يمر بشبابيك دمشق أو مطلات بيروت لا بد أن يرى أخيلة غادة السمان ممشوقة عصية على السنوات.
وأعتقد أن الدكتورة عزيزة المانع سبق وأن اقترفت تلك المغامرة في كتابين ومنها كتاب (زامر الحي) ولا أعتقد إلا أنها كانت محقة في ذلك القرار، إذ يستطيع من يرجع لتلك الكتابات أن يستشف المناخ الاجتماعي وسقف الحرية وأنماط التفكير والحوار والمد والجزر والطروحات الفكرية والثقافية التي تمثلها مرحلة تلك الكتابات، فهل نتمنى على وزارة الثقافة والإعلام أن تخرج تلك الأجزاء المفعمة بالحياة من أرشيف الصحف لمراحل سابقة وتقوم بطباعتها خاصة لبعض تلك القامات الأدبية الفارعة؟ هذا دون أن نعفي أنفسنا من المجهود الأهلي والفردي في هذا المجال، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|