جرتني قصة إريك سيغال إلى أن أتذكر أننا في عصر السندويتشات فعلا، عصر لا يجلس للقراءة فيه إلا رجال الأبحاث وأصحاب القضايا والمحامون ونفر قليل من الناس الذين تشغلهم هواية المطالعة.
الثقافة والمطالعة لم تعد موجودة في دكاكين الوراقين، وتحت زيت المصابيح التي تتراقص.. ولكنها صارت أكثر قربا.. صارت تأتي من التلفزيون مرة ومن الراديو مرة.. ومن ألوان الصحف وصورها وبعض حروفها مرة ثالثة.
والأدب كفن حي.. بدأ يقاتل في الميدان نفسه، ميدان السرعة والخفة.. أصبحت بعض القصص القصيرة تقرأ بين نظرة، ونظرة من نافذة قطار أو سيارة.
أقول هذا وفي ذهني أقصوصة قصيرة جداً من هذا النمط للاديب الاذاعي السوداني (الطيب صالح).. اذكر انها كانت على هذا النمط:
في البدء كنت احب ان اغني.. ولكن صوتي كان نشازاً، الى ان لقيتها.
قالت لي: انني اذا كنت احب ان اغني فيجب ان أبدأ.
قلت: ولكن صوتي نشاز.
قالت: نحن من الحب.
الناس تستهويهم اغاني الحب الحزينة.
وهكذا ابتدأت.. لم يحفل الناس بي أول الامر.. ولكن بعضهم قد بدأ يصغي.. بل إن بعضهم الآخر قد أحب غنائي.
كانت عيناها خضراوين.. وكانت تحب العالم كله إلا اليابان حيث قتل أخوها.
لقد تركتني لأنني ترددت.
أمر محزن نوعاً ما..لأنني وإن كنت أحب أن يسمع الناس غنائي.. فإنني أغني لها خاصة.
انتهت القصة.. أليس كذلك؟!
حينما يهرم الشجر
في بعض بلدان الشرق التي تعلم الحكمة للأطفال قبل أن يتعلموا (فك الحروف).. يعلمونهم منذ الأيام الأولى هذه العبارة:
(تأمل الشجرة.. وتعلم الحكمة منها ؟!
- وماذا تعلم الشجرة أيها الأديب الشيخ ؟
- يابني.. إنك إن غرست شجرة.. وسقيتها وشذبتها.. كبرت.. وأثمرت..
- وهل من الضروري أن أسقيها أيها الأديب الشيخ ؟
- أجل يا بني.. وإذن فكيف تريد لها أن تعيش بغير سقاية.
- وإذن فكيف تنبت أشجار الغابات البرية دون أن يتعهدها أحد بالسقاية؟!
ضحك الأديب الشيخ وقال:
- أيها الطالب الفتي..
إنني لأرى فيك نباهة.. إنه لا أحد يسقى تلك الأشجار..
ولكنها وحدها تسعى وراء الماء.. تغوص وراءه.. تطلبه حتى ولو كان في أقصى الأرض.
- وهل من الواجب أن تثمر كل شجرة..
- يابني.. لكل شجرة طريقتها في الإثمار.. بعضها يخضر.. وبعضها يطول.. وبعضها يزهر.. وبعضها يثمر.. وبعض الثمر حلو.. وبعضه مالح.. وبعضه مر علقم.. وكل ذلك ثمر ولكن بطريقة خاصة.
- وكيف أتعلم الحكمة من ذلك أيها الشيخ؟
- ما صناعتك أيها الفتي؟
- كنت في الماضي أتعلم فنون الكتابة.
- والآن؟!
- آكل وأشرب وأنام وأتصفح الأرقام، وأسمع نشرات الأخبار.
- حسنا.. كم عمرك؟
- بعد الثلاثين بقليل..
- ألم تر شجرة تجف..
ونهضت مهرولا.. وأنا أردد.. لقد أدركت حكمة الشجرة الآن.. دخلت منزلي وأشعلت حطبا.. وتذكرت مروجا كنت قد مررت بها يوما.
قصة حب
(ماذا أقول عن فتاة في الخامسة والعشرين حين تموت.. أقول.. إنها كانت جميلة.. وذكية ذكاء خارقا.. وإنها كانت تحب موزارت وباخ.. وتحبني أنا).
مطلع بسيط وهاديء.. متقن تسمع نقرته على صحفة وجدان راكد.. تماما كما تلقي بحصاة في غدير (تم) تسمع وقعها.. ثم ترى الدائرة تنبع من نقطة غرقت فيها وتأخذ النشوة بأن تتابع الدائرة وهي تتسع وتتسع لتشمل الغدير كله..
بمثل هذه الكلمات بدأ (إريك سيغال) قصته الأخيرة التي مازالت تتخاطفها الأيدي في أكثر بقاع العالم.. ويتابعها النظارة في دور السينما..
وتنفتح الأضواء فجأة والأعين محمرة.
بعض النقاد يسمون هذه القصة ردة إلى الرومانتيكية..
ولكن هل الرومانتيكية عيب..
وهل العيب في أن يكتب المرء إحساسا صغيراً كقبعة زهرة..
دافئا كينبوع من جبل تتلقفه آلاف الأفواه المتعطشة إلى كلمة تهز.. إلى موقف يستحق وقفة اعتراض صغيرة.. أو على الأقل إطراقة حزن عل موقف باص.
بقية الأسبوعيات
القصة باختصار ليست في أحداثها.. ولكن في حوارها المتأني.. تماما كما تتأني يد تنظم الخرز لتصنع منه اسما لطفلة صغيرة تنقشه على ثوبها المدرسي.
أوليفر فتى جامعي في السنة الأخيرة يقصد مكتبة لاستعارة كتاب منها.. وهناك يصادف جيني وهي تعمل في المكتبة يعجبه حديثها وتحديها له.. وتتكرر اللقاءات.. ولكن المشكلة تبدو في أن أوليفر فتى غني ينحدر من أسرة أمريكية كبيرة.
أما جيني ففتاة إيطالية الأصل.. فقيرة نوعا ما.. ولكنها متميزة بنفسها.
ويعارض والد أوليفر الزواج.. ويسعى أوليفر وراء هذه المعارضة ليبني نفسه بيده ليس غير..
ويسعد الزوجان أياما.. ولكن هذه السعادة سرعان ما تنقضي.. إذ إن جيني تعرض نفسها على طبيب لتتأكد من قابليها للإنجاب.. وهناك تحدث الكارثة إذ يكتشف الطبيب أن جيني مريضة بدمها مرضا لا نجاة منه.
وتموت جيني..وعلى باب المستشفى يلتقي الأبوان.. أبوها يجلس حزينا على الدرج وهو يغالب دمعه.. وأبوه يعتذر.. في وقت لامجال فيه للاعتذار.
القضايا التي تطرحها القصة هي قضايا الشباب في العالم هذه الأيام.. حينما يتقابل الغنى مع الفقر.. والاعتماد على النفس بدل الاعتماد الميراث.. الحب ودوره في الحياة.
أشياء كثيرة.. تحتاج إلى دراسة واعية من تلك الدراسات التي يبرع فيها النقاد الراسخون.
|