- إن عمل الإنسان يرتبط بما يراه من رأي ويؤمن به من مناهج وأفكار، ولكل إنسان رأيه ومنهجه وطريقته، وتختلف هذه الطرق والمناهج والأفكار والتصورات باختلاف الأشخاص والجماعات والثقافات والعقائد. ولا يستطيع أي إنسان أن يعرض رأيه وقناعته على الآخرين ما لم يكن لديه الدليل الواضح والبرهان الساطع والحجة الدامغة فيما يقوله ويدعيه ويعتقده، هذا في قضية إمكانية عرض ما لدى ذلك الشخص من الآراء والأفكار والاعتقادات أمام الآخرين، وإذا كان منهج الإنسان صحيحاً بالدليل والحجة والبينة فربما يقتنع به الآخرون أو لا يقتنعون، ولنتذكر ما قاله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وقت دعوته لكفار قريش عندما شق عليه عدم استجابتهم لدعوته وإعراضهم عنه:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (6) سورة الكهف.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يشق عليه عدم قبول الكفار ما لديه من البلاغ المبين والصراط المستقيم وتكاد نفسه تذهب عليهم حسرات وكان يصيبه الهم والغم من إعراضهم عن الحق فجاءه التوجيه القرآني الكريم بأن عليه ألا يهلك نفسه بسبب عدم استجابتهم وتقبلهم واذعانهم لنداء الحق، ونزل قوله تعالى عليه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (56) سورة القصص.
حاول الرسول مراراً وتكراراً أن يقنع عمه أبا طالب لما حضرته الوفاة بالإيمان والإسلام وترك الشرك بالله وطلب منه أن يقول كلمة التوحيد ليحاج له بها عند الله يوم القيامة ومع هذا لم يستطع إلى ذلك سبيلاً، ولم يهتد إلى ما أراد طريقاً وقبل أن تخرج روحه قال بل على ملة عبدالمطلب ومات على الشرك، لأن أبا طالب لديه قناعات في نفسه وبما يعتقد ومن الصعوبة أن يغير أبو طالب هذه القناعات التي نشأ وشب وشاب عليها. وفي قصص الأنبياء ما يدل على أن الهداية من الله ولا يستطيع النبي أن يوصلها ولو إلى أعز الناس إليه وأقربهم إلى قلبه ومثال ذلك نبي الله نوح عليه السلام مع ابنه عندما طلب منه أن يؤمن بالله ويركب معهم في الفلك المشحون أبى الإيمان وبقي على الكفر وأدركه الغرق ومن معه من الكافرين، وكذلك إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر عندما استخدم معه افضل اساليب الدعوة ولكنه رفض دعوته وهدده بالرجم وطلب منه أن يهجره ملياً.
إن بعض الحوارات قد تدار بين فئتين فئة على الحق بالدليل والحجة والفئة الأخرى هي الفئة الضالة التي لا دليل معها ولا حجة تدعمها، وتلاحظ أن الفئة الأخرى وهي الضالة تصمد على منهجها الباطل وطريقتها الضالة.
إن طرح القضايا التي ينعدم في موضوعاتها الدليل والحجة غير مجد ومفيد لأن كل مسألة لا دليل عليها ولا حجة تدعمها مردودة على صاحبها ومرفوضة جملة وتفصيلاً، لذلك جاء مع كل نبي من الأنبياء ورسول من الرسل آية تناسب العصر الذي فيه الرسول والنبي وفي مستوى إدراك وعقول قوم النبي المرسل والرسول المبعوث.
إن استحضار الدليل واستصحاب البينة من الأمور التي يعلو بها الحق ويندمغ بها الباطل قال تعالى: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } (18) سورة الأنبياء، ولعلنا نذكر محاورة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع ذلك النمرود الذي حاجه في ربه أن آتاه الله الملك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (258) سورة البقرة.
استحضر الخليل الدليل على ما يقوله واستخدم الأسلوب الأمثل عندما حاول النمرود بن كنعان لما ادعى بهتاناً وزوراً أنه الرب للناس فغلبه إبراهيم - عليه السلام - بالحجة والبرهان وجعله يبهت عندما قال له محاوراً: ربي الذي يحيي ويميت فقال النمرود: أنا أحيي وأميت فقال إبراهيم - عليه السلام - فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فما كان من النمرود إلا أن بهت بهذه الحجة.
وليس بالضرورة لكي يكون الحق منتصراً أن يؤمن النمرود ومن على شاكلته وأن يعلن قناعته بالحق وإنما الأهم أن تقام البينة وأن يظهر الحق بالدليل والبرهان أمام الناس وبعد ذلك يوضع لهم الخيار إما اتباع الحق وإما الاستمرار في الزيغ والفساد {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } (29) سورة الكهف.
إن المسلم المؤمن الصادق يبلغ الناس الخير بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجعلهم يقبلون ما يدعوهم إليه برضاهم وطواعيتهم ولا يفرض عليهم الدين فرضاً ولا بالإكراه: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل.
إن استخدام مبدأ القوة في الإرشاد يدل على فشل وسقوط الداعي المبلغ للخير والناصح، وليس علينا إلزام الناس بقبول ما ندعو إليه ولو كنا على يقين أن ما ندعو إليه هو الحق: { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (99) سورة يونس.
إن مما يؤسف له أنه يوجد في بعض البلدان الإسلامية جماعات تنتسب إلى الدين وتتصرف بتصرفات ليس لها أصل في الإسلام بل يحاربها الدين وهم بهذا الأمر يهدمون ولا يبنون ويفسدون ولا يصلحون، ومن أعمالهم المشينة أعمال التخريب في الممتلكات العامة التي ينتج عنها سفك دماء بريئة وأعمال عنف وترويع آمنين وحجة أولئك أنهم يثأرون لدين الله وينتقمون من الفسقة والعصاة وأولئك هم المفسدون وفعلهم هذا من أشد الفساد والضلال ولا يخدم دين الله ومخالف لتعاليم الدين الحنيف.
إن الدين يعرض باللين والرفق لا بالشدة والعنف، هكذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه رضي الله عنهم والتابعين لهم.
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (56) سورة القصص.
|