تزوجت لمّا كان عمري العاشرة أو الثانية عشرة، لا فرق..المهمّ عُدنا من تسريح الغنم قُبيل المغرب، ونادتني أمي، وغسّلتني لأول مرة في هذا الوقت، وألبستني ثوبا أحمر جديدا لأول مرة أيضا، وسلّمت عليّ هي وأبي وإخوتي، وقالوا: هذا زوجك، انطلقي معه، ولأنني مطيعة جدا وأثق بهم، ابتسمت، وانطلقت معه على الجمل الذي أركبه لأول مرة، وفي هذا الليل الدامس مع رجل أراه لأول مرة، وهو زوجي أيضا. كان الظاهر لي أنه يكبرني بعشر سنوات أو ما حولها، وليس فيه شيء غريب، فهو يتركني ألعب كما أشاء، خاصة بعدما ارتحت من تسريح الغنم ومطاردتها في البراري، وبدأ معي رسم خارطة لتدريس الحياة وفنونها التي أتمنى أن تتقاسموها معنا الآن. كان بيتنا غرفا طينية صغيرة وقليلة كذلك، وكان قد بدأ في الأسبوع الأول يُعرّفني على تفاصيل البيت، وأين الطّبخ، وأين الضيوف، وأين النّوم، وأين اللعب..على أن هذا البيت سيكون مدرستي الخاصة، والحقيقة سيكون مدرستنا نحن الاثنين، ولن ينجح إلا مَن يكون جادًّا وصادقا، وإن كنتُ أتعلّم كلّ شيء منه، إلا أنه - من رحمته - كان يجعلني الناجحة دائما، مما زاد حماستي وجدّيتي في كلّ شيء، لأننا - في الحقيقة - ننجح معا.
أصبحتُ أشعر أن زوجي ملاك عالمي، وفرحي الذي يبتدئ كل ثانية، فأوّل ولادتي لطفلي الأوّل وجدته فرحا جدا جدا، ودعا الله تعالى أن تمتلئ عيناه بأطفاله إذا نظر إليهم نظرة واحدة، فضحكت، وقلتُ له: ومن أين سنُحضر لهم بيتا أوسع، وملابس أكثر وأنا وأنت لا يزيد ما نملكه عن ثوبين لكل واحد منّا، ومن أين سأكون بتلك الصحة والقوة والعافية لأرضعهم جميعا من صدري بلا عون أحد، وألاعبهم، وأعلّمهم؟
ضحك عليّ وقال: يبدو أنكِ لا تعرفين الله تعالى؟! إنه يرزقنا الأطفال رحمة لنا، ويرحمهم بتكفّله برزقهم، فيرزقنا من رزقهم وبه، وما علينا سوى أن نُخلِصَ النّية، والعمل، والتربية، ونُنجِبهم من حلائل أصلابنا، وسترينَ ذلكَ إن شاء الله تعالى إذا آمنتِ بذلك وعملتِ به معي، لكي نضمن سعادة دُنيانا وأخرانا بإذن الرحمن الرحيم، ولأنني مطيعة جدا، وأحبه، وأثق به، اجتهدتُ في تعميق يقيني بذلك عن طريق العمل والأمل.زوجي يُعلّمني القرآن الكريم، ويعلّمني الكتابة والقراءة، وأسرار المواسم الفلكية، وفنون زراعة الأحواش الصغيرة ببعض النباتات التي نستفيد منها دون أن تضرنا بأن تُصبح مجمعا للهوامّ الخطِرة على أطفالي الذين كانوا يزدادونَ واحدا كُلَّ عام ونصف تقريبا، ولله الحمد والمِنّة، فزرعت النّعناع الذي كنتُ أغليه لهم إذا شعرتُ بالمغص يضايقهم، وزرعت اللِّيف الذي أُحمِّمهم به، وزرعت دوّار الشمس الذي يستمتعون بفصفصته بين أسنانهم الصغيرة، وكذلك الطّماطم، وغيرها مما لا أذكره الآن، وأنا على عجل. كان صباحنا أشد إشراقا من نور الشمس، فعندما نستيقظ لصلاة الفجر نقوم كأننا جماعة كاملة، وعندما ننشط للفطور كأننا أسراب عصافير، وعندما ننتظر زوجي في الظهيرة والعشيّة نغدو أسرابا أخرى من اللهفة والشوق وإعداد المفاجآت، ولمّا يعود فنتحلّق للعشاء نغدو كأننا حفلة كاملة، رغيف القمح الأسمر الواحد يغدو مزرعة خصبة من الفرح والرضا والشّبع.. وتنتظرنا أقاصيص المساء وأشعاره الرائعة.
ننام حتى نشبع بسلام، ونأكل، ونمرح، وندرس، ونزور أقاربنا بسلام أيضا، ولم نشعر أن شيئا ما ينقصنا إطلاقا، لأننا كنا نعيش بعين واحدة، وقلب واحد، ولسان واحد، وما دار في قلوبنا - قطّ - أن كثرة أطفالنا تحرمنا راحةً هنا، أو رزقًا هناك، أو أن علينا أن نُوقف هذا (التفريخ) كما سمته بعض جاراتي المدنيّات هذه الأيام بعد أن اختلطت المرأة بالدجاجة عندهنّ ! أُقبل على الأربعين بلهفة رؤية أطفالي يكبرون، وبناتي بدأن يصبحن زوجات وأُمّهاتٍ أيضًا، والبقيّة إذا رأيتهم شعرت أنني أرى هِمّةً تمشي على الأرض، تحمل أفراح الحياة كلّها، وتُضيء عتمة المخاوف من الآتي المجهول ببريق الأمل والثقة بالله تعالى الذي أشعر به سراج فرحي الذي لا ينطفئ. حتما، الحمد لله الذي رزقنا تلك الأمومة التي لم تتحوّل يوما ما إلى أُمومةٍ صناعية، أو أمومة مُعطَّلة لسنوات أو للأبد، فقد استمرّت حياتنا في عملٍ متواصل لا يجعلنا نشتكي الفراغ، ولا ضيق ذات اليد مقارنة بمن لم نفرغ لمراقبة شؤونهم والتحسر على ما ليس في يدينا مما في أيديهم..
وهدى الله مَن ضيَّعْن حلاوة الأمومة في التشكي منها، وفي إجهاض الأطفال، وفي إيقاف نموّهم داخل رحم الحياة !
|