ما من ذي عيال إلا وله يد سبقت، أو هي قائمة مع السياحة داخل البلاد أو خارجها. وله ذكريات عذاب وأخرى عذاب - بكسر العين وفتحها - وما من عائل يقدم أهله في رحلة السياحة إلا ويكون - شاء أم أبى - آلة للصرف، غير أنها تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق. وليس له بعد إلا العناء، فيداه تلوبان جنبيه للاطمئنان على الأوراق والورق، خشية السرقة، وعيناه في المقدمة وفي الساقة خشية الضياع. وما من رب أسرة ركب موجة السياحة إلا ويعود مجهد القوى، خالي الوفاض. وأهله وحدهم المتمتعون السعداء.
ومع كل هذه المنغصات، فإنه يرقب بشوق مع أسرته العطلة الصيفية، ليمتطي متن الريح، أو يذرع فضاء الأرض، ليقضي تفثه، وليوفي بوعده لأسرته. وفي كل عام يختار مكاناً بكراً للسياحة، يتحسس عنه كأخوة يوسف، فعام داخل البلاد، وعام خارجها. ولكل مكان في الداخل أو في الخارج مؤلفاته ومنفراته. وما يقال عن مناطق السياحة في الداخل أو في الخارج لا يَصْدق منه إلا القليل: قدحاً كان أو مدحاً، إذ كل إنسان يمر بظروف مواتية أو متمنعة، قد لا يمر بها غيره، فيظن أن الناس على شاكلته.
وإذا كنا نود أن يكون سمننا في دقيقنا فإن من واجب هذا الدقيق أن يكون شهياً، بحيث لا يضيع فيه السمن.
والذين احتوتهم المصايف الداخلية، يشكون، ويطيلون الشكاية من أمور كان بالإمكان تلافيها. وإذا كنا نريد لمشاريعنا السياحية أن تظل في نمو وازدهار، فإن علينا أن نطرح المجاملة جانباً، وأن نوقف تبادل أنخاب الثناء، وأن نواجه أنفسنا بما هي عليه من نقص ممكن التلافي فالسياحة في بلادي كما هي في كثير من بلاد العالم مرهقة: جهداً ومالاً.
وبعض المناطق السياحية تمتلك أجواء ملائمة، ومناظر جميلة، وجبالاً وسفوحاً جذابة، غير أنها لم تعالج لتكون مجالاً للسياحة، كما أن طبيعة الناس لا تمتلك أسلوباً سياحياً. فالسياحة فن، وصناعة الخدمات المناسبة فن. السياحة شبكة من الاستجابات التي لا ينفصل بعضها عن بعض، ولا يغني بعضها عن بعض.
وليست المسألة قدرة مالية، فكم من كوخ تخفق الأرواح فيه أقدر على توفير السعادة من قصر منيف. ومهما حاولنا الإغماض لتمرير الأمور فإن المصلحة في المصارحة، والنجاح في الشفافية، والتوفيق في الثقة، فالبلد بلدنا، والمشاريع مشاريعنا، والثروة ثروتنا، وليست لأحد دون أحد.
وفي النهاية (ما للصلايب إلا أهلها)، ومن ظن أنه وحده الآمر الناهي، فقد وهم، ولن يصلح شأن السياحة إلا بسماع القول ونقيضه، وتبادل حسن الظن.
ومهمة المسؤول عن قطاع السياحة أن يتقصى الآراء والانطباعات والملاحظات والتطلعات من السائحين أنفسهم، وبخاصة الذين طافوا أنحاء الوطن العربي على الأقل، والوقوف على ما يتطلعون إليه، وما يشكون منه، فيما يتعلق بالمساكن والمطاعم والمنتزهات والتسوق والخدمات.. فالسائح بحاجة إلى خدمات متعددة، ذلك أنه يريد الخروج من رتابة الحياة ونمطيتها، وحاجته إلى أجواء مغايرة تماماً. ومع الإيمان التام بأن السفر نار، وليس قطعة منها - كما تقول عائشة رضي الله عنها - إلا أن الوسائل والطرق خففت من غلوائه. ولقد يمر السائح بمواقف لا تسعفه فيها الأموال ولا الوجاهات. يلقى ذلك في الطرق، أو في محطات الوقود، أو في المدن، أو في منافذ الحدود.
وحين يقف بما معه من أموال، ثم لا يجد حاجته، يحس بأن الموقع غير مؤهل لكي يكون معبراً أو مستقراً. وما أزهق أرواح المشاريع إلا المجاملات.
ولما كانت الخدمات السياحية تجارة، فإنها رهينة العرض والطلب.
أقول قولي هذا لأنني شاهد من أهلها، مررت لا ريث ولا عجل بكل المواطن السياحة في (أبها) و(الباحة) و(الطائف) وبالمدن الساحلية ك(جدة) و(الشرقية) و(ينبع) وكانت لي إلمامات عجلى فيما سوى مصايف بلادي (سوريا) و(لبنان) و(مصر) و(تركيا) ولكل موقع مشاكله ونواقصه، ولكنها مشاكل ونواقص تختلف من موقع لآخر.
والمواطن الخليجي بالذات حين يخرج من دياره يُنظر إليه كصيد ثمين، يزهقه الجميع بأبصارهم، بوصفة خزانة نقود متنقلة، حسبما يتوهم كل مستسمن ذو ورم. وفترة السياحة كما الرياح حين تهب، يسعى لاغتنامها كل قائم أو قاعد، وكل أعباء الاغتنام على كاهل السائح المسكين، حتى إنه لا يستطيع أن يقف في مكان، أو يستظل تحت شجرة، أو يدخل دورة مياه إلا ويدفع الثمن. وفوق ذلك فإن الباعة المتجولين والمتسولين المتفننين ينغصون عليه خلوته.
لقد وقع الخيار هذا العام على (بلودان) الريف الدمشقي الجميل في مناظره وأجوائه ومطلاته واختلاف أشكاله وألوانه. وكنت قد ألممت به من قبل مع بعض الرفاق أكثر من مرة، وفي أعوام متفاوتة، وفي كل عام أحس بأنه يتقدم في توفير متطلبات السياحة، لقد تبدى لي أن الدولة توفر للسائح من التسهيلات ما يجعله لا يحس بوجود سلطة على الإطلاق، ولقد تصورت أن سيارة السائح كبقرة الهنود المقدسة، لقد فاض بالخليجيين، وازدحمت طرقاته، وامتلأت منتزهاته ومطاعمه وأسواقه ومساكنه، وأصبح الناس فيه كما لو كانوا في المشاعر، حركة دائبة، وازدحام مرهق، وتنافس على المساكن والمواقع، غير أن الأجواء السياحية، والهواء البارد، والمناظر الخلابة، والفواكه الطازجة تنسي السائح بعض ما يعانيه.
وفي (بلودان) تحس بالفرق بين صناعة السياحة وعفويتها، وفوق كل ذلك تجد نفسك في عوالم أخرى من حيث الأجواء والمناظر والفواكه والمطاعم.
لقد كادوا ينحتون من الجبال بيوتاً غير فارهة، ولكنها جميلة أخاذة، بدت من حولها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين من أشجار متدلية بالثمار، ومطلات غنية بالمناظر، فيما تركنا جبالنا في (الباحة) أو في (أبها) أو في (الطائف) مسرحاً للطيور ومرتعاً للقرود، لا يصلها ماء ولا كهرباء، ولا تخترقها خطوط، ولا تقوم بها أشجار مثمرة، واكتفينا بعمارة المدن. والسائح يهرب من رتابة المدن إلى عفوية الأرياف.
ولما كانت السياحة في الخارج لها سلبياتها وانعكاساتها الاقتصادية كان علينا أن نستبق الإغراء لا الإكراه، فالسائح يبحث عن شيء مغاير تماماً لما هو عليه، يريد أجواء غير أجوائه ومناظر غير مناظره.
لقد كنا مع هم بلادنا، وكنا الأحرص على تحريك أسواقنا، وتنشيط الحركة السياحية المحلية، وبعث الطمأنينة في نفوس رجال الأعمال الذين أنفقوا في سبيل السياحة الشيء الكثير، وإذا اضطررنا إلى السفر خارج البلاد، وتدفقت أموالنا، تذكرنا بلادنا، فأحسسنا بالتقصير في حقها، وإن كانت الجهود فيها مستوردة، والسلع مستوردة، وما نجنيه من السائح تلتقطه العمالة الوافدة ودول التصدير.
وعندما نلح بالمطالبة ونسلط الضوء على السلبيات فإننا نريد أن تأخذ البلاد نصيبها، فهي الأولى بلحم ثورها، ومع المراجعة والمساءلة لن ننسى الإيجابيات، ولن ننكر التفاني في سبيل خلق أجواء سياحية منافسة، فكل المسؤولين في المناطق السياحية في المملكة يبذلون كل طاقاتهم، ويوظفون كل إمكانياتهم، ويستغلون كل قادر من أثرياء وإعلاميين ومرافق عامة، ومن لم يشكر الناس لا يشكر الله، ولا يعرف الفضل لذويه إلا ذوو الفضل.
لقد بذلت المناطق: مسؤولون ورجال أعمال جهوداً استثنائية، وأنفقوا أموالاً طائلة، وأسهم القطاع الخاص بالشيء الكثير، ولن نحقق ما نريد برفض النقد، ولا بالخوف منه، فما عاد العصر عصر مجاملات، ولن نواجه تبعات (العولمة) الاقتصادية إلا بالشفافية والمكاشفة.
وكل مسؤول: كبيراً كان أو صغيراً من واجبه أن يبذل ما يستطيع من القول والفعل والرأي، فذلك واجبه، ومتى وضع يده أو فكره كان عليه احتمال النقد والمساءلة، ومتى قلنا بأن فلاناً من الناس فوق المساءلة والنقد، أتحنا أكثر من فرصة لمن لا يريد أن يعمل، ولا يرضيه إلا أن يحمد بما لم يفعل، وتلك لعمر الله أولى العوائق، وكل من حاول أن يخرج من دائرة المسؤولية عند المساءلة، وهو عنصر فاعل أو مثبط فيها، يحول دون تلافي الأخطاء قبل استفحالها.
وبلادنا جادة في الشأن السياحي، والهيئة تمارس أعمالها وفق خطط مدروسة، ومع هذا فهي وحدها لن تعمل، والسائح حين يثني، ويزكي، يسهم في التثبيط وفوات الفرص. لا بد من المواجهة، ولا بد من تلافي الأخطاء.
المناطق السياحية بحاجة إلى إعادة النظر، وبلادنا أولى بأبنائها وأموالها. والسائح يبحث عن الأجواء الملائمة والإنفاق المعقول. ورب الأسرة حين يختار بلاده، لا يقدر على حمل أسرته على القبول، ما لم يكن اختياره في مكانه، وحين يهرع السياح إلى خارج البلاد تصاب المناطق السياحية بالكساد، ومن ثم ينفض سامر القوم، وتعود حليمة إلى عادتها القديمة. وتصبح مشاريعنا وقتية، وكم جاء رهاننا على أشياء كثيرة، لم يكتب لها النجاح، مع أنه لم ينقصها الإخلاص ولا الإنفاق، ولكن ينقصها التخطيط والمتابعة والشفافية وقبول النقد.
لقد قلنا بأن الأسر تبحث عن الأجواء الملائمة لها، من حيث الحشمة والبعد عن أجواء الصخب، وإذ تكون الأجواء ملائمة، في (الزبداني) أو في (بلودان) أو في (مضايا) كما هي في بلادي، وإذا توفرت الحشمة هنا وهناك، كان لا بد من أن نحسب للتنافس حسابه، فالأجواء الطبيعية والاجتماعية ملائمة، كما أن الإنفاق المعقول في تلك المصايف يشكل عامل جذب. لكل هذا فالسياحة في بلادي تواجه منافسة غير متكافئة. ولا بد من دراسة ميدانية، تمكن الهيئة من تجميع كافة المعلومات عن إمكانيات المصايف المنافسة، والعمل على توفيرها. إن لدينا أجواء ملائمة في (الجنوب) قد تسد الذي يسده ما سواها، غير أنها بحاجة إلى لمسات فنية تفر، بالناس من قعر المدينة إلى قمم الجبال. ولعلي لا أكتم الأخوة في الهيئة حديثاً حين أقول لهم: إن المصدر الأدق والأوفى والأوثق هو (السائح) الذي طاف المصايف كلها، وعرف حلوها ومرها في الداخل وفي الخارج.
والخطوة الإيجابية أن توضع (استمارة) للاستبيان على شكل مربعات أو أسئلة، توزع على كل سائح، عاد من خارج البلاد أو من داخلها، ويطلب منه تعبئتها بما يخدم المصلحة العامة، وبعد تجميع الاستبيانات تفرَّغ المعلومات، وتصنف الأشباه والنظائر، وتحلل، تمهيداً للخروج بتوصيات تخدم السياحة، وتحقق لها النماء. أما الاعتماد على ما يقال في الصحف من مجاملة كاذبة أو تحامل جائر، فذلك كلام استهلاكي لا قيمة له، ولا جدوى منه.
هناك من يذم، لأنه لم يوفق في رحلته، وهناك من يمدح لأنه وفق، وهناك الفضوليون المجاملون، وكل هؤلاء لا يؤخذ بقولهم.
والتأسيس السليم لا بد له من تقصي الواقع، وتصور المؤمل والخروج بتوصيات مقدور على تنفيذها، ليست مثالية عصية المنال ولا واقعية متدنية الخلال. والدولة حين اختارت التحولات المؤسساتية فإنها تتحامى الارتجال والحلول الوقتية، وذلك بالتوفر على المعلومات الدقيقة، والتصحيح المرحلي، وتطوير كل المرافق وفق خطط مدروسة. والهيئة العليا للسياحة مؤسسة يجب عليها أن تصيخ لكل كلام، فتأخذ بأحسنه، ولا تحسب النقد سليماً من شوائب الذاتية، فقد يصدق كله، وقد يكذب جله، والمسألة تتطلب تعاملاً مؤسساتياً يزن الأمور.
ولما كان السفر يسفر عن وجوه الرجال، فإنه في الوقت ذاته يسفر عن إمكانيات المواقع. وليس من المعقول أن نكون في غفلة عن هذا اللازم، وما كنا مخذلين ولا مزهدين بالسياحة الداخلية حين نثني على بعض جوانب السياحة الخارجية. ولو لم يكن من منغصات السياحة الخارجية إلا الوقوف الطويل على الحدود في الجيئة والذهاب، وتعدد الإجراءات وتعقيداتها، وكثرة الحيل لاستغلال المواطن العربي عامة والخليجي على وجه الخصوص، وهي حيل تؤذي السائح. فالمسافر وبخاصة من معه أسرته ووسيلة نقله مضطر إلى أن يلهث وراء الجمارك والجوازات والصرافين والتأمين للتسجيل هنا والصرف هناك.
فهو يخرج من طابور ليقف وراء آخر، وكل العيون ترقب ما في يده، ولا يستكمل مسوغات الدخول أو الخروج إلا بعشرات الأوراق والأختام، فإذا لفظته نقطة الخروج منهكاً متوتراً، استقبلته على مسافة أمتار نقطة الدخول، ليمارس العمل نفسه، وينفق الأموال عينها، ولكثرة الزحام والأختام والأوراق وتوتر أعصاب كل الأطراف من عابرين وموظفين، تفقد بعض الوثائق، أو تعطى لأصحابها دون استكمال، أو تعطى لغير أصحابها، حتى إذا ركب السائح دابته، ومضى أعيد من حيث أتى، ليأخذ دورتين، دورة لتصحيح الأخطاء، ودورة لاستكمال النقص. ولقد شهدت من هذا الشيء الكثير. وفي كل طابور لا يدري السائح ما الذي يراد منه، وما الذي يراد به، وهل يكفي دفع المطلوب؟ وما المطلوب؟ يقف وهو لا يدري لماذا وقف، ومن ثم فهو خائف يترقب، عين وراء أوراقه، ويد تنزف من جيبه، وفي خضم هذه الإجراءات فإنني محق وملزم بالثناء على إجراءات المنافذ الحدودية في المملكة، فالقادم لا ينزل من سيارته، بل يناول أوراقه ويتناولها، وهو راكب في سيارته. ولولا ما تعانيه المملكة من عمليات التهريب، لكان أن أصبحت الإجراءات أفضل ما يمر به الداخل أو الخارج.
تلك شهادة حق لا نرجو من ورائها جزاء ولا شكوراً. وكم أتمنى لو أن منافذ الحدود الأخرى تختصر الإجراءات، وتأخذ ما تريد من ضرائب مجموعة في إجراء واحد، بدل عدد من الإجراءات المرهقة، وبالإمكان جمع كل الضرائب في ورقة واحدة، وما قتل السائح إلا (البيروقراطية) المؤذية، إن المرور بأكثر من شباك والوقوف في أكثر من طابور مظهر من مظاهر التخلف.
إن السائح لا يضايقه إلا تعدد الإجراءات، ولا يرهقه إلا الوقوف الطويل في طوابير، يمكن أن تجمع معاً، وإذا كان القصد دعم الاقتصاد، فما الذي يمنع من تقديمه عن طريق (القنصلية) في بلد السائح.
ومع كل هذه الإجراءات الكتابية والأختام المتعددة ليست هناك دقة في التطبيق، ولا حفظ للحدود، فأصحاب الجوازات لا ينظر إليهم أحد، فقد يدخل رجل باسم امرأة، وقد يدخل رجل بدون جواز، وموظفو الحدود يحرصون على استكمال الإثباتات القيدية وحسب، وما سواها من أخطاء فادحة قد لا تعنيهم، وكم كنت أتمنى أن تخرج (جامعة الدول العربية) بإجراءات مرنة، ومفيدة، وبخاصة بعد توفر الأجهزة المعلوماتية، ووقوف المواطن العربي الساعات الطوال لاستكمال إجراءات الدخول أو الخروج مؤذن بتعميق الكره والاشمئزاز، وقد لا يتوفر الداخل على الراحة المطلوبة التي تعوضه عن الأتعاب التي مر بها على الحدود.
وآخر دعوانا أن يمنح الله الهيئات التشريعية والتنفيذية في الوطن العربي آذاناً صاغية واعية، وأن تتسع الصدور لتقبل النقد، كما وسعها لاستقبال الثناء، فتلك الخطوة الأولى في سبيل الإصلاح.
|