كم كان الخبر مؤلماً.. محزناً.. لم أصدق.. أصبت بدوار.. أحسست برعشة سرت في أنحاء جسدي.. لكن تحملتها صدمة واسترجعت (إنا لله وإنا إليه راجعون) لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده لأجل مسمى، الحمد لله، الحمد لله على كل حال.. تمنيت أن يؤذن لصلاة العصر لأتجه لسجادتي وأصلي، أحس برغبة عارمة لأن أكون قريبة من الله.. أحس برغبة في البكاء ولكن هيهات فلن أبكي كما هي عادتي! فقط ما أشعر به هو عبرة، بل عبرات وغصة تمنعني حتى من الكلام.. أذن العصر فتوضأت وصليت ودعوت.. دعوت الله لك يا أيمن وأنا أتخيلك.. أتصورك.. فلم أستطع لأنني لم أرك البتة لكن الذي أعلمه وأتيقنه جيداً هو ما في قلبي من مشاعر الأخوة في الله.. والرحمة التي أودعها الله في قلوبنا لك.. ألم يقل عليه الصلاة والسلام (.. هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، فإنما يرحم الله من عباده الرحماء) دعوت الله لك بالثبات عند السؤال.. فاللهم اغفر له وارحمه.. اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة.. كما دعوت الله لوالديك: اللهم آجرهما في مصيبتهما واخلف لهما خيراً منها.. اللهم اربط على قلبيهما.. اللهم لا تحرمهما أجره ولا تفتنهما بعده.. وبعد أن أنتهيت من الدعاء لم أشأ أن أغادر سجادتي لا لشيء إلا لرغبتي في الخلوة مع نفسي.. فرهبة الموت ليست بالأمر الهيِّن وتستحق منا وقفة تأمل واعتبار..
حينها بدأت العاطفة تجود.. بما آل إليه الفكر والعقل.. لقد رحلت يا أيمن رحلتك الأبدية هذه، حيث غياهب التراب.. ولكن بقي عبق سمعتك الطيِّبة.. الندية التي عطرت سويداء قلوبنا.. وملأت مسامع القوم بما تحدث به أهلوك ومحبوك.. حتى جعل الصغير والكبير يذكرك ويتحدث ولا يتحدث إلا بخير.. وما قالوا إلا حقاً، فلقد كنت نباتاً حسناً.. نشأت على طاعة الله. باراً بوالديك لم تكن جباراً ولا شقياً.. على الرغم من حداثة سنك..!
أحسبك كذلك والله حسيبك فهنيئاً لك يا أيمن.. هنيئاً لك.. فنحن شهداء الله في أرضه ولكن ما حال أبويك من بعدك؟ أحسب أن لسان حالهما يقول: غابت في الدنيا الأقمار.. غابت في الدنيا الأقمار.. ومع هذا لا أخالهما إلا حامدين لله شاكرين فأنا أعرفهما معرفة تامة.. وثقتي بهما كبيرة وكبيرة جداً! فهما من زرعا وتعهدا ذلك النبات الحسن - أيمن - بمعونة من الله جلَّ في علاه.. وبالفعل كانا كذلك، {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} وكأني بهما قد تمثَّلا:
بني إن عدمتك في حياتي
فلن أعدمك ذخراً في المعاد
وكنت حشاشتي وجلاء همي
وإلفي والمفرج عن فؤادي |
حينها تساءلت: إذا كان هذا هو حال أيمن - رحمه الله - وهذا هو حال أبويه من بعده فلله الحمد والمنَّة.. إذن فما بالي حزينة والغم جاثم على صدري.. وثمة أفكار متضاربة تلهب قلبي.. وبراكين معربدة.. حبيسة.. دفينة..! في الحنايا - عبثاً أحاول إخمادها - تصدع منها كبدي..؟! لا أعرف جواباً.. لا أعرف أبداً..!!
غير أن الذي أعرفه جيداً:
وكل أم وإن سرّت بما ولدت
يوماً ستفقد من ربت من الولد |
لذا فإن القلب ليحزن.. وإن العين لتدمع.. وإنا لفراقك يا أيمن لمحزونون.
|