Monday 16th August,200411645العددالأثنين 30 ,جمادى الآخر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "محليــات"

لما هو آت لما هو آت
سُليمى...
خيرية إبراهيم السَّقاف

عند العاشرة من المساء
غادرتُ كنتُ، حجرة مكتبي، أجرُّ بقايا الضَّجيج، أركنُ إلى وداعة حلمٍ برائحة صالات السّفر، في محطات الذّهاب والإياب، وألوانِ مراكبَ من قلوبٍ، وعقولٍ تنوءُ بما تراكم...، كي تجتنحَ ريش طائر أخيلةٍ تبحرُ كي تتأمَّل...!!
أصطحبُ حقيبتي...، دسستُ فيها طوارئ احتياجاتي...
وكم تأمَّلتُ الطير... لا يحمل حقيبة...، ولا لدابَّة الأرضِ حاجة إليها!!
تركتُ هاتفي ذا الذاكرة الصوتية
لم أوقفْ عنه تيّارَ حياته...
و....
تذكَّرتُ بعد ظهيرة الذي تلا المساءَ من ضُحى اليوم الذي أصبحتُ فيه مغادرةً، أنَّ عليَّ أن أهجّد فيه التَّيار، رغبةً في منح مزيدٍ من الهدوء للذين سأخلِّفهم قريبين منه...
فَصَعَدْتُ، وقدماي ستتجهان لمحطة الرحيلِ كي أفعل...
لكنَّ فضولاً أخيراً لسماع آخر الأصوات التي تفقَّدتني قبل رحيلي، راودني، فكان صوتُها... أودَعَتْه ذاكرة هاتفي العاشرة مساء التي غادَرَت من الليالي...
(سُليْمى)...
فارهةَ الرِّقةِ، حادَّة ارتفاع الضغط، تعاني من فجوة القيم بين الكلامِ والفعلِ في سلوك الإنسانِ!!
سمراء من ثرى نيل السودان..
رفيقة رحلة امتدّت لسنواتٍ تنوفُ عن عَقْدٍ ونصف العقدِ
بيني وبينها مواعيد وجعٍ، ومواسم مواويل، وشجون اغترابٍ...
ولحظات تأمّل في رهق الإنسانِ وكَبَده...
في عاشرة المساء الذي عَبَر، تركَتْ لي رسالةً بصوتها: (لي عنك صديقتي أسبوع، لك اشتقت كثيراً... هل أسمعُ صوتكِ هذا المساء؟)...
لكنَّ المساءَ عَبَر
والصّباحَ عَبَر
وهذه الظّهيرة تلتهمُ خطوتي كي أغادرَ!
أغلقتُ الرسائل...
ألغيتُ ذاكرةَ الهاتف...
غادرتُ بابَ مكتبي...، وَعَدْتُ بأنّني سأجري معها اتصالاً في العربة
بين خطوتي وبقعة المطار...
بَقيَتْ على رحلتي بعضُ ساعاتٍ...
اتّجهتُ لعربتي...
هاتفي المحمول يرنُّ في حقيبتي...، رنيناً متتالياً، مكرَّراً لم أكد في معمعة الرّكضِ أن أتجاهله...
وخْزٌ كالنَّصل اجتاحني كلّي، لماذا؟ لم أكن أدري؟
صوتُها جاءني خافتاً وجلاً بحجم ما تدريه عنّي أكنُّ في دخيلتي عنها سُليمى، صوتُها (إلهام) صديقة مشتركة جاءني يقول: (سُليمى، سُليمى يا خيرية توفّيت)؟!
(سُليمى)؟!... قبلُ لحظاتِ سمعتها، مساءَ العابرة مرَّت بي، أودَعَتْ صوتَها في ذاكرة هاتفي، سألتني أن أهاتفها، لم أكنْ لحظتها وطيلة البارحة بجوار الهاتف، سمعتُها اليومَ، كنتُ على وعدٍِ مع نفسي بأن أهاتفها بعد اللَّحظة...
أجل، قالت إلهام: العاشرة والنصف تُوفّيت بعد مهاتفتكِ بنصف ساعة!!
(سُليمى) النَّخلة الإفريقية الفارهة امتداداً روحياً، يتمدَّدُ صوتُها في أذني, يتسلَّلُ الآن إلى كياني...، يهزُّ كلَّ لحظةٍ نفذ فيها إلى مشاعري، لحظة ضحكٍ، وبكاءٍ، وفرحٍ، وأسى، وحنينٍ، وشكوى، وقلقٍ، واطمئنانٍ... و... مواجع رهق الإنسانِ من الإنسانِ...، وتنتهي الحقيقة إلى أنَّ لا شيءَ يبقى إلاَّ تلك الذاكرة...، الموشومة بكل شيءٍ...
الصورةُ والصوتُ والموقفُ واللَّونُ...!! كلّ ذلك قفز إلى حضورٍ بيني وبينها... (سُليمى): أتسمعُ صوتي بعد أن تركَتْ لي صوتَها في ذاكرة هاتفي؟ قبل أن يصلَ إليها؟؟... شوقها الغامر دوماً لأن تغفو بعد أن نتحادثَ في كلِّ شيءٍ يعنّ لنا، في وجع الأيامِ، ونستدرّ مواسم المواقف ومدّ البحور في أروقة العين، ونتجاوز دكنَ الأسوار النَّاهضة يحتجزُ بها الناسُ بين قلوبٍ بيضاء وأخرى عابثة في الظَّلام،
(سُليمى):
ووجدتُني أحوّل اتّجاه عربتي من المطار إلى حيثُ جلستُ بلا وعي لأوَّل مرَّة في ترقُّب دخولها حيث نتحلَّق في رثاءٍ...، حتى تلك اللَّحظة وطقوس الموت في عزاء الأفارقةِ تستنهض صوتي مناشدة الصمت.. منهن لم أدركْ أنَّها المعنيَّة به... هذا الرثاء...
لم أدركْ بأنَّني لن أراها...، لن أسمعها إلاَّ في ذاكرة العقل...
والهاتف...، والنّفس...
في ذاكرة المسامِّ روحاً لا تغادرني أبداً...
ثمَّ أفقت...
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }
له ما أعطى تعالى... وله ما أخذَ سبحانه
اللَّهم فاجمعنا في فردوسك الأعلى
وأرحم ضعفنا وغفلتنا... وارحمها رحمة تليق بك يارب.
آمين


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved