Sunday 15th August,200411644العددالأحد 29 ,جمادى الثانية 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "محليــات"

دفق قلم دفق قلم
غرائب القصص والتوثيق
عبدالرحمن بن صالح العشماوي

قال لي صاحبي: أسألك عن قصّة سمعتها في مجلس فيه جماعة من المعنيّين بالفنِّ الغنائي تقول: إنَّ أوّل مَن اتخذ العودَ رجلٌ اسمُه لامك بن متوشلح من الجيل السادس بعد آدم - عليه السلام -، حيث كان له ابن يحبّه حباً شديداً، جعله لا يسلو عنه، ولا يقوى على غيابه، ثم قدَّر الله - سبحانه وتعالى - أن ابنه هذا مات، فحزن عليه حزناً شديداً، وأبى أن يدفنه في الأرض، بل علَّقه في جذع شجرة كبيرة قريبة من منزله، وقال: أظلّ أنظر إلى جسد ولدي كلَّ يوم، وأظلُّ أبكيه وأعبّر عن تأسُّفي لفراقه، وحسرتي عليه أبد الآبدين. فلم يزل كذلك حتى تقطعت أوصال جثة ولده المعلَّقة، ولم يبق منها إلا فخذاه وما دونهما من الساقين والقدمين والأصابع، فأخذ لامك خشباً فرقَّقه ثم ألصقه بما بقي من جسد ابنه، فجعل صدر ذلك الخشب كالفخذ، وعنقه كالساق، ورأسه كالقدم، وأسفله كالأصابع، ثم جعل له أوتاراً كالعروق التي كانت بارزة فيما بقي من جسد ولده، فضرب بتلك الأوتار؛ فأظهرت صوتاً له رنين حزين، فأخذ ينوح مع صوتها، فكان ذلك أصل نشأة العود الذي يستخدمه أهل الغناء إلى اليوم.
قلت لصاحبي: إنني أذكر أنني قرأت هذه القصّة في بعض ما قرأته من الكتب، وقد غاب عن ذهني اسم ذلك الكتاب، ولكنني لم أتوقف عندها حينما قرأتها، وإنْ كنت قد تعجّبت من غرابتها، وما يظهر فيها من الصناعة والتلفيق، فضربت عنها صفْحاً كغيرها من مئات القصص الغريبة التي نقرؤها ونسمعها، وها أنتذا يا صاحبي تُعيد إلى ذهني هذه القصة، وأقول لك في شأنها: إنها من القصص التي يتناقلها المغرمون بالعجائب والغرائب، الذين لا يتوقفون عند مسألة التحقيق والتوثيق، ولا يعنيهم صوابُ ما نقلوه أو خطؤه، وإنما يعنيهم الإتحاف والإغراب، وإشباع خيالات القراء. وهذا النوع من القصص والحكايات لا نتوقف عنده كثيراً، ولا نعوِّل عليه في إثبات شيء أو نفيه، ولا نجد مانعاً من قراءته لما فيه من متعة القصّة والترويح، إلاَّ إذا كان فيه ما يخالف حكماً من أحكام الشرع، أو ينقض أصلاً من أصوله، أو يؤيِّد باطلاً، أو يكون دليلاً يعتمد عليه أهلُ الأهواء، فعند ذلك نرفضه، ونبيِّن للناس حقيقته؛ حتى لا ينخدعوا به.
ثم مضى زمن على كلامي هذا لصاحبي، حتى وقعت يدي على كتاب في مكتبتي قرأته من قبلُ، فأخذت أقلب صفحاته مستعيداً بعض ما كنت قرأته، فإذا بي أجد هذه القصة فيه، وهو كتاب (رحلة بن حمادوش الجزائري) وهو رحّالة جزائري عاش في القرن الثاني عشر الهجري حيث ولد عام 1107هـ. وقد أورد في كتابه هذا بعض الغرائب من مثل قصّة لامك السابقة ممّا لا يثبت أمام التحقيق والتوثيق، وأورد مع هذه القصّة قصّة أخرى في الموضوع نفسه يرويها عن نفسه فيقول: سكنت في سفرٍ من أسفاري فندقاً، فسمعت بعد صلاة العشاء قوماً يضربون بالعود وأنا أطلّ عليهم من مكاني في الفندق، فإذا بإمام المسجد قد خرج ومعه رفيق، فلمّا سمع العود وقف متكئاً على عصاه وظلَّ يستمع، ثم التفت إلى رفيقه وقال: هل تعلم ما سبب هذا العود؟ إنَّ سببه أن الشيطان لما أخرجه الله من الجنة بتمرُّده وعصيانه بقيت في أذنه تلك الأصوات الحسنة التي كان يسمعها في الجنة، فلم يجد في الدنيا مثلها حتى مرَّ يوماً بساق إنسان قد بلي لحمه، وبقي العظم والعروق اليابسة كالأوتار، فلمّا حركتها الرياح أحدثت صوتاً حسناً، فصنع على مثالها العود الذي يعزفون به.
هكذا يحلو لابن حمادوش أن يروي مثل هذه القصص الغريبة التي لا سند لها من تحقيق ولا توثيق، ولا يقبلها عقل لاستحالتها، وإني لأعجب له: كيف استطاع أن يسمع من موقعه في الفندق كلام إمام المسجد مع رفيقه؟!
إشارة


وما ذرَّات هذا الرمل إلا
كتابٌ ضمَّ أخبار الرجال


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved