كنت أقرأ كتاب فقيه الأندلس وإمامها ومثقفها الأكبر ابن حزم الأندلسي (طوق الحمامة في الألفة والألاف)، الذي توفي سنة 456 هجرية، وأبقى لنا تراثاً علمياً فريداً لا يضاهى في كل العلوم الشرعية، ورغم أن هذا الكتاب الذي أتحدث عنه ليس من أهم ما ألف، لكنه كان من أرقها وأعذبها وأجملها على الإطلاق، فضلاً عن أنه يحمل دلالات وإرهاصات نحن في أمس الحاجة إليها.
الكتاب من أوله إلى آخره يتحدث فيه إمامنا عن الحب!! وكان يستعرض قضايا الحب واللوعة استعراض الخبير الذي يعرف أبعادها وأعماقها وخصوصياتها -فهو- مثلا- يقول عن نفسه، وهو الإمام المهاب:(وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهراً، وأخذي معه في كل جد وهزل)، ولاشك أن هذا كلام حكيم متبصر، ينأى بنفسه عن رعونة الحب المتعجل، فهو لا يعشق إلا بعد تبصر وروية، فلا يحب وجهاً مشرقاً أو جسداً منيفا، وانما يحب بعد أن ينفذ إلى قلب حبيبته، ويقرأ عقلها ويعشق شخصيتها، وكل هذا يحتاج إلى وقت لا تكفيه (نظرة واحدة).
ويروي في كتابه قصة حب حدثه بها (ثقة) من إخوانه، يقول فيها: إنه كان قد علق في صباه جارية في بعض دور آله، وكان ممنوعاً منها فهام عقله بها، قال:(فتنزهنا يوما إلى أن غيمت السماء وأقبل الغيث، فلم يكن من الغطاء ما يكفي الجميع. فأمر عمي ببعض الأغطية فألقى علي وأمرها بالاكتنان معي فظن بما شئت من التمكن على أعين الملأ وهم لا يشعرون.. وياله من جمع كخلاء واحتفال كانفراد!!)، وفي موضع آخر من الكتاب يقول:(لقد منحني الله عز وجل من الوفاء لكل من يمت إلي بلقيا واحدة).
وعندما كتب الإمام ابن حزم هذا الكتاب كانت الأندلس هي الدولة الوحيدة المتمدنة في أوربا، لذلك كان يحمل إيحاء ثقافياً حداثياً بمقاييس ذلك الزمان على الثقافة الأوربية في القرن الحادي عشر الميلادي، حيث كانت الأندلس في ذلك القرن هي الدولة المتمدنة الوحيدة في أوربا، وكان العرب الذين يقطنونها قد نقلوا الثقافة العربية المتمدنة إليها، وكانت هذه الحضارة قد تخلصت من جلافة الأعراب، وقساوة الصحراء، بقيمها وتقاليدها ومنطقها الشاحب، لتصبح حضارة إسلامية حقيقية، تشع نوراً وسمواً ورقياً أينما حلت وأينما اتجهت رحالها. بينما كانت ثقافة الأوربيين ثقافة (قرويين) متخلفين أجلاف، هم أقرب ما يكونون شبها بقرويينا اليوم، الذين خلطوا عاداتهم وتقاليدهم بالدين، وكانت الحرية الفكرية في أعلى درجاتها لدى الأندلسيين، وكذلك لدى دول المشرق، وكانت الفنون بمختلف أنواعها وأصنافها شائعة ومتغلغلة في الذوق الأندلسي، وبالذات فن العمارة والطرب على وجه التحديد، وكان الأوربيون يأخذون عن عرب الأندلس علوماً وآداباً وفنونا وفلسفة كما نأخذ نحن اليوم من الحضارة الأوربية المتفوقة.
وكان (طوق الحمامة) هذا بعض ما أخذوا- مثلما يذهب سلامة موسى- فعرفوا الحب العفيفي أو الحب العذري، وألقوا القصائد والقصص عن النبلاء الذين يخرجون لإنقاذ العذاري وحماية السيدات، وفشا من ذلك فن القصص الخيالي الغرامي الذي عم فرنسا في القرون الوسطى كما يؤكد ذلك مؤرخو حضارتهم بما يشبه الاعتراف.
وعندما نرى واقعنا اليوم، نشعر بحجم انتكاستنا الثقافية ونكوصنا الحضاري، وتحكم قيم التخلف والقروية والرعوية في واقعنا، فلا نجد إلا هذا الواقع القاسي الجاف، الذي لايرى في الحب سوى مجرد علاقة محرمة ومرفوضة بين المرأة والرجل، فيصر على تهميشها، وتفسيق أصحابها، في حين أن إمامنا رحمه الله كان يقول بمباشرة، ودونما أي تردد عن الحب:(دعني أخبرك أني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظمأ!).
والسؤال الذي يطرحه هذا السياق: لماذا تم تهميش، بل وإلغاء، هذه الثقافة الرقيقة العذبة والإنسانية من ثقافتنا، وجرى في المقابل تكريس ثقافة البغضاء والكراهية والقتل والذبح والعنف والدماء ولمصحلة من يكون مثلاً: كتاب (الباحث في جواز قتل رجال المباحث) للإرهابي فارس الزهراني، أهم عند ناشئة المتشدين من كتاب (طوق الحمامة في الالفة والألاف) للإمام ابن حزم رحمه الله.. هل أجد إجابة؟
|