إن دولة الإسلام الأولى - التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم - ما قامت إلا على أكتاف الرجال الأشداء الأقوياء، من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة، وخصوصاً السابقين منهم الذين تولوا أمور الدولة: كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقاص.
ولو نظرنا إلى أمة ملكت مثل هذا التاريخ، فصارت تتغنى بأمجاد الماضي، وأنه كان لها نصر وعز وتمكين، وأن فيها فلاناً أو أمة ملكت الثروة والمال والجاه - بأي صورة كانت -، أو غير ذلك من مظاهر القوة والرقي، لو نظرنا إلى هذه الأمة أو تلك لوجدنا أن سر قوتها وتمكينها كان بتربية الفرد الصالح، الذي يبدي استعداده للتضحية في سبيل هذا المبدأ أو العقيدة التي يدين بها، وفي سبيل هذه الأمة التي ينتمي إليها.. وأثر الفرد في بناء الأمم وتكوين الحضارات قضية كانت تشغل بال المصلحين والغيورين على الدين منذ أول عهد الإسلام، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلس في مجلس من الصحابة، فيقول: (تمنوا)، فقال أحدهم: (أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً فأنفقه في سبيل الله) ثم قال عمر: (تمنوا) فقال آخر: (أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً أو زبرجداً أو جوهراً فأنفقه في سبيل الله وأتصدق).. وهذه أماني خيِّرة، لكنها لم تكن هي الأمر الذي يشغل بال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم قال عمر: (تمنوا)، فقالوا: (ما ندري يا أمير المؤمنين)، قال عمر: (أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان)!. إذن عمر رضي الله عنه لا يشغل باله المال، أو الذهب والفضة - التي ينفقها في سبيل الله - بل يشغل باله أمر أخطر من هذا، ألا هو بناء الفرد.
وهؤلاء الرجال الذين تقوم عليهم الدعوات، وتعتمد عليهم الأمم - بعد الله عز وجل - إذا رزقوا الصبر والثبات على مبادئهم وعقيدتهم - حققوا من جليل الأعمال ما يشبه المعجزات، ولكن لا بد لهم أن يتمتعوا بالصبر والثبات على مبادئهم، لأنهم قوام الحياة، فإذا صلحوا صلحت، لكن إذا انحرفوا أو فسدوا أو مالوا إلى الدنيا أو تأثروا بالمتغيرات من حولهم فسدت الأرض بفسادهم.
وهؤلاء الرجال الذين تحتاجهم الدعوة الى الإسلام لابد ان يكونوا متميزين بخصائص فطرية جبلوا عليها، تناسب المهمة التي خُلقوا من أجلها، وأخرى مكتسبة حصلوها بتكميل أنفسهم، وأخذوا بالجد والحزم إلى دعوة الإسلام.
والله - عز وجل - اختار هذا الجزيرة على علم بخصائص أهلها، كما قال تعالى: {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (124) سورة الأنعام، فالعرب على ما كانوا عليه من الانحراف؛ إلا أن صحراءهم مترامية الأطراف كانت تمنع وصول كثير من المفاسد والمباذل إليهم، ومعيشتهم البدوية الصحراوية كانت تمنع تأثرهم بالمذاهب الفلسفية المنحرفة، التي كانت تسيطرعلى الناس في ذلك الوقت، فكانوا يتمتعون بالشجاعة والكرم والقوة والنجدة والصدق، فالعرب كانوا يتمتعون بخصائص فطرية جيدة، بالقياس الى ما كان يوجد في الأمم الأخرى في عصرهم.
والإسلام لا يهدف إلى الغاء الخصائص الفطرية الموجودة عند الناس، بل يعمل على توجيهات توجيهاً صحيحاً، والاستفادة منها، فهذا - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه الذي كان قوياً شديداً في الجاهلية وكان كثير من القرشيين يهابه ويخشاه من يوم أن أسلم تحوّلت هذه القوة والشدة الموجودة فيه إلى شجاعة في سبيل الله عز وجل وإلى جرأة في مواجهة الكفار والمشركين وهذا ما ذكره لنا المصنفون في سيرته رضي الله عنه.
ولو نظرنا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لأصحابه من الشباب وغيرهم - لوجدنا ملمحاً قوياً في هذا الجانب، فعلى سبيل المثال - يروي لنا عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص قال: فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟) فقلنا: (ندخل المدينة، فنثبت فيها ونذهب ولا يرانا أحد)، قال: فدخلنا فقلنا: (لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان لنا توبة قمنا، وإلا ذهبنا) قال: (فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا: (نحن الفرارون) وفي قولهم هذا شعور بحرارة الخطأ واستسلام للجزاء الذي سيقع عليهم ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمسك الجانب الآخر وهو بعث الخير في نفوسهم، فلم يوافقهم على ما قالوا، ولم يقرعهم ويوبخهم على ما فعلوا.. كلا، بل كما قال ابن عمر: فأقبل إلينا فقال: (بل أنتم العكارون) - أي أنتم الكرارون الذين تغادرون العدو، ثم تكرون عليه مرة أخرى).
أيضاً الحرص على تفجير منابع الخير عند الإنسان وذلك بكثرة طرق الخير، من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وطلب العلم والإحسان.. وغير ذلك، بحيث إن كل طاقة عند الإنسان تجد لها مصرفاً يصرفها فيه، ويشعر أنه يخدم الإسلام من خلال تصريف هذه الطاقة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير)، والمقصود بزوجين شيئين اثنين من أنواع الخير، كأن ينفق دينارين أو درهمين أو بعيرين.. أو غير ذلك - (فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة).
فلم يأت الإسلام ليحطم شخصيات الرجال، ويقضي عليها ويجعل الناس كلهم عبارة عن نسخة واحدة أو قالب مصبوب.
لقد جاء الإسلام لينقل كل فرد من وضعه الذي يعيش فيه وخصائصه التي يتميز بها ليكون مسلماً متسماً بخصائص معينة يوجِّه هذه الخصائص لخدمة الإسلام.. لم يأت الإسلام ليجعل الناس كلهم علماء ولا ليجعل الناس كلهم مجاهدين يحملون السيف في سبيل الله.. ولا ليجعل الناس كلهم متعبدين.. يحيون ليلهم ويصومون نهارهم بل خاطب الإسلام كل فرد بما يناسبه.
ونعلم جميعاً أنه لا يكاد يوجد إنسان مهما يكن شريراً إلا ويوجد فيها قدر من الخير وقد يكون هذا القدر من الخير مغطى بطبقة من الانحراف أو الفساد بحيث إن الإنسان الذي يقابله أول وهلة يتصور أن هذا الإنسان مجموعة من الرذائل تمشي على الأرض، وأنه لا خير فيه ابداً، لكن لو وُفق هذا الإنسان بيد حانية، تعمل على إزالة الغبار والانحراف الموجود على الفطرة لتكشف الفطرة خصائص جيدة محمودة عند هذا الإنسان وأقرب مثل على ذلك ما جاء من قصة عمر رضي الله عنه، فعن عامر بن ربيعة أن أمه ليلى قالت: كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشة جاءني عمر وأنا على بعيري، أريد أن أتوجه، فقال: (أين يا أم عبد الله؟) فقالت: (آذيتمونا في ديننا؛ فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى في عبادة الله).. فقال عمر: (صحبكم الله) ثم ذهب، فجاءني زوجي عامر بن ربيعة فأخبرته بما رأيت من رقة عمر، فقال: (ترجين أن يسلم) فقلت: (نعم) فقال: (والله ولا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب).
فالفطرة - أحياناً - تكون مدفونة بطبقة كثيفة من الانحراف، لكن الواقع أن الإنسان لا يخلو من جانب خيّر، والتربية الإسلامية تهدف إلى مخاطبة هذا الجانب الخيّر، وتحريكه وإثارته، حتى يكبر ويصبح بارزاً.
قال أبوبكر رضي الله عنه وهو يستمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، ما على أحد يُدعى من أي من هذه الأبواب ضرورة - يعني من أي باب دُعي الإنسان ما دام أنه سيدخل الجنة، فليس عليه من بأس إن دخل من باب الصلاة، أو من باب الزكاة، أو من باب الصوم، أو من باب الجهاد، أو من غيرها - فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، وأرجو أن تكون منهم).
|