منذ مائة سنة، نعى شاعر النيل الكبير حافظ إبراهيم رحمه الله، نعى لغتنا العربية، وربما كانت يومئذ أحسن حالاً منها اليوم، والأمة التي تفرط في لغتها، هي إلى غيرها أكثر تضييعاً.. ونحن العرب أكثر تفريطاً لمكاسبنا ومقتنياتنا المهمة, ومع إيماني أن العربية باقية، لأنها لغة الكتاب العزيز والسنّة المطهرة، إلا أن هذا البقاء سيكون محدوداً ضيقاً عند المتخصصين والباحثين والدارسين، وهذا قد يوصف بأنه بقاء معنوي, بعيداً عن الانتشار، وبعيداً عن الشيوع، لأن الهجر يؤدي إلى الموات أو ما يشبهه، وهو المحصلة الأليمة.!
* كان ينبغي لو حرصنا والتزمنا بالحفاظ على لغتنا الشريفة, أن تكون بلادنا مهد العرب مرجعية هذه اللغة وقاعدة يرجع إليها الوطن العربي للأخذ منها والتزود من المورد الذي لا ينضب، وأن يكون اهتمامنا بلغتنا مقروناً باهتمامنا بالكتاب العزيز والسنّة النبوية وفقهنا وشريعتنا، لو حرصنا في كلياتنا ومعاهدنا وجامعاتنا على هذا الربط، وجعلنا النجح الأساس في هذه المقررات ومنها وفيها لغتنا العربية إجادة وامتحاناً لا تساهل فيه ولا مراعاة، لكان حال لغتنا خيراً.. إننا مسؤولون أمام الله عن تفريطنا في لغتنا.. ولو ألقينا نظرة إلى الأمم الأخرى, الإنجليزية، والفرنسية والألمانية، لأدركنا حرصاً لا يقاس عليه، لأنهم يغارون على لغاتهم، أما نحن فإننا مفرطون أشد التفريط، فماذا بقي لنا؟ المال، الكلام نلوكه إدعاءً ومفاخرة لا تفضي إلى شيء! الا ما أضيع أمة أضاعت لغتها وتنظر إليها شزراً, كأنها ليست بذات بال.. ولو كنا مخلصين لها وجادين في الحفاظ عليها، لجعلناها همنا، من واقع غيرتنا عليها، لأنها موروثنا الباقي, نفاخر به، لأنه قيمة وجمال ومتاع.. وفي التعليم بمراحله المختلفة, يدرك الواعون مصير اللغات القديمة التي ماتت واندثرت، مثل اليونانية القديمة واللاتينية وغيرهما وأصبحت محنطة في المتاحف، فهل نحن العرب نتطلع إلى يوم تصبح فيه لغتنا حبيسة المعاجم والمتاحف، ونقول ونردد أعني الأجيال القادمة، بأنه كانت لنا لغة حيّة، اعتز بها الأجداد وحافظ عليها, غير أن الخلف أماتها بالهجر، ولم تجد حتى الناعي لها، ذلك أن لغة الحياة لغة أخرى، لهجات لا خير فيها، ولغات العالم الحي تلقى منهم كل الحرص والحفاظ عليها والغيرة وعمل كل السبل لإشاعتها ونشرها في أقطار شتى خارج وطنها الأم! أما أمتنا فقد كانت حية ذات مجد، ثم صارت إلى ما تصير إليه الأمم الخاملة، فلعلها تستحق الرحمات.!
|