قال لي صاحبي: لماذا نرى كثيراً من الكتاب والمفكرين والدُّعاة يستمدون أمثلتهم على الخير، وأهل الخير، وأعمال الخير من الماضي القريب والبعيد، ويتحدثون عن الشرِّ وأهله وكأنه لا يجري إلا في واقع الحياة المعاصرة؟ أليس هنالك خير معاصر يستحق أن يذكر ويستشهد بأمثلته، وهل أصبح أهل الخير في الواقع الذي نعيشه من النُّدرة بحيث لا نجد منهم أمثلة حيَّة يمكن أن يستشهد بها؟
قلت لصاحبي: إنك تفتح بوَّابة موضوع مهم بسؤالك هذا، وتوجّه النظر إلى مسألةٍ تستحق أن يعتنى بها من قبل الدعاة والمفكرين والكتاب.
ويمكن أن أجيب عن سؤالك هذا إجابة مختصرة فأقول: لاشك - أيُّها الحبيب - أنَّ الخير موجود في حياة الناس إلى أن تقوم الساعة، وأن الخير والشر يتباريان ويتصارعان في حياة البشر من خلال من يحملهما من الناس، وأنَّ الحرب بينهما سجال، وإن كانت النتائج المشرقة في الدنيا والآخرة مرتبطة بالخير وأهله كما هو ثابت من الوقائع والأحداث قديماً وحديثاً.
ولاشك - أيضاً - أن هنالك وقائع من الخير وعمله في الحياة المعاصرة تستحق أن تكون أمثلةً مشرقة يرويها الكتاب والدُّعاة والمفكرون، ويضربون بها الأمثلة حيَّة على الهواء مباشرة، تراها العين وتسمعها الأذن، ولكنَّ المسألة ترتبط - في نظري - بالهالة التي تحيط بالقصة أو الشخصية التي تكون بعيدة عنَّا، لأنها تروى لنا من وراء الأزمان، فيكون للخيال دور كبير في رسم ملامحها المشرقة بصورة كبيرة يكون أثرها في النفس أكبر، ومكانتها في القلب أعمق، ما ما نراه ونسمعه من القصص المعاصرة لنا فإنَّ حجاب (المعاصرة)، وحاجز الرؤية المباشرة قد يقلِّلان من شأنها وقيمتها في نفوسنا فما تنال منا ذلك الشعور بأهميتها الذي تناله القصص الموغلة في ذاكرة الماضي قريباً كان أم بعيداً
وهنالك دليل واضح من حياة الناس، فكم من أسرة لم تفطن إلى مزايا كبير السنِّ فيها إلا بعد موته، فتجد أفرادها يتحدثون عن بعض صفاته الجليلة ومواقفه النبيلة، وما جرى على لسانه من الحكمة، وعلى يده من عمل الخير بعد وفاته، وكأنَّه لم يكن يعيش بينهم بهذه الصفات، وكم من طلاب علم نهلوا من علم شيخهم وفقهه، وعايشوا حسن خلقه، وطيب معشره، لم يتحدَّثوا عنه حديث المعجب الذي يرى فيه قدوةً صالحةً، وشخصية عظيمة إلا بعد موته حين غاب عن عيونهم شخصه، واختفى عن أسماعهم صوته، وقسْ على ذلك أحداثاً وأشخاصاً لم يفطن الناس إلى فضلهم وإلى أهميتهم إلا بعد وفاتهم، ولم ينتبهوا إلى قيمة تلك الأحداث إلا بعد انتهائها. إذن، هذه مسألة معتادة في حياة الناس من هذا الجانب.
وهنالك جانب آخر يتعلق بعامة الناس ألا وهو إعجابهم وانبهارهم بأخبار الماضي وقصصه وأحداثه وشخوصه، لأن الخيال يتدخل في رسم الملامح، ولأن حاجز المعاصرة غير موجود، وهو حاجز مكوَّن من الغيرة حيناً، والحسد حيناً آخر، وعدم تقدير الشيء الموجود بيننا أحيانا أخرى.
إنَّك حينما تضرب أمثلةً بحلم الأحنف بن قيس، أو قيس بن عاصم، وبكرم حاتم، وإقدام وشجاعة عنترة، وقوة شخصية عمر بن الخطاب- رضي الله- عنه، فإنَّك تضرب أمثلة بشخصيات تاريخية تثير الإعجاب، ولا تثير الغيرة أو الحسد، ولكنك حينما تضرب أمثلة بشخصيات معاصرة معايشة، للناس فإنك تصطدم بما يصيب النفوس أحياناً من المشاعر التي تهوِّن من قيمة الأمثلة المعاصرة التي تضربها بسبب معايشة الناس لها.
إنَّ الواقع المعاصر مليء بأمثلة قويَّة مؤثرة من الأحداث والمواقف والأشخاص وإنَّ ضرب المثل بها مطلبٌ مهمٌّ مهما كانت الموانع، ففي الواقع من الخير والشر ومن الإضاءة والإشراق، والعتمة والإظلام مثل ما في غيره من الأزمنة الماضية.
إشارة
ضلَّ من حوله الينابيع تجري
صافيات وهمُّه الأوحال |
|