Saturday 14th August,200411643العددالسبت 28 ,جمادى الثانية 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

(الطفرة).. هل عادت؟ (الطفرة).. هل عادت؟
عبدالعزيز السماري

الطفرة تعني التغيير السريع، أو القفز من حال إلى أخرى، لكن بدون تدرج مرحلي أو تحضيرات مسبقة، وهو مصطلح مشتق من علم الموروثات، وتعريف الطفرة في علم الوراثة هو حدوث خلل في ترتيب الأحماض النووية (أي خلل في تكوين الجينات). وقد تحدث الطفرة الجينية في داخل خلية واحدة من الجسم وقد تكون في جميع الخلايا، وهو عادة حدث سلبي، وقد ينتج عنه أمراض وأعراض سلبية، بينما يصعب تقييم آثارها عندما يستخدم الاقتصاديون وعلماء الاجتماع مصطلح الطفرة لوصف حالة الانتقال المفاجئ في الثمانينات من حال الفقر والدخل القليل إلى حال الثراء والدخل المادي العالي، فهناك من يرى إيجابيات لا حصر لها في طفرة الثمانينات، ولعل أبرزها تحسين البنية التحتية، وإرسال البعثات التعليمية إلى الخارج، وغيرها من الانجازات التنموية الحديثة والهامة، لكن في جانب آخر هناك من يجد في نقلتها السريعة والمفاجئة أحد أسباب ما يحدث في مجتمعنا من سلبيات، مثل الفقر والإرهاب وأزمة العمل والتعليم.
فالانفجار السكاني الذي حدث بسبب الطفرة المادية، ثم التركيز على الجامعات النظرية، والاعتماد على الطاقات البشرية المستوردة في عمليات التنمية أحدث ظاهرة الانفصال بين مجتمعين أحدهما على قدر جيد من المهنية، والحرفية، لكن أغلب أفراده من خارج الوطن، وآخر أغرقته جرعات المادة في أعرافه الصحراوية والقبلية، لترده مسافات إلى الوراء حيث مجتمع القبيلة والعائلة الكبيرة، ليهجر رب العمل حرفته الزراعية أو المهنية ويبدأ مهمة البحث عن مكانته في القبيلة والأسرة، وتعود لمشيخة القبيلة وكبير الأسرة مكانتها القديمة، بعد ان تم تعزيزها بالمال، وبالقدرة على حكم الأفراد بالأعراف القديمة. وكان أهم انجاز للطفرة المادية استبدال وسائل انتقاله واتصاله القديمة باخرى حديثة، ليصبح من خلال الدخل المادي العالي والسيارة الفارهة والهاتف الجوال سيد قومه، ومثلهم الأعلى، وتبدأ مرحلة البحث في الماضي، والتنقيب عن أسباط القبيلة أو العائلة التي تاهت بسبب الحروب والجوع والجفاف، ثم العمل على اعادة الحياة لشجرة العائلة، ورد الفروع والأغصان إلى الجذر، ثم العمل على رصد الأموال والأنشطة الاجتماعية للحفاظ على صورتها النقية من شوائب الزمن الغابر..
في التاريخ الحديث حدثت نماذج مشرقة للطفرة الاقتصادية، أو الطفرة المادية الناتجة عن الاقتصاد المبني على الانتاج والعمل، وما حدث في سنغافورة خلال الثمانينات مثال نموذجي على الطفرة الاقتصادية السليمة من السلبيات والعيوب والآثار الجانبية والتي بدأت في سنغافورة كما جاء في كتاب (the man and his
ideas) للمؤلفين: هان فوك كوانج
وارين فرنانديز سوميكو تان، مع ظهور صناعة الخطاطيف المستخدمة في صيد الأسماك والتي استطاعت ان تخلق بضع مئات من فرص العمل. كان ذلك في بادئ الأمر مثيرا للسخرية لكثير من رجال الأعمال، فكانت هذه الصناعة البسيطة بمثابة شريان الحياة لاقتصاد سنغافورة المتصدع آنذاك، فلا توجد موارد طبيعية تعتمد عليها، بل صناعات حرفية مثل سنارات خطاطيف صيد الأسماك وصناعة إطارات السيارات وكاميرات التصوير.
كانت مهمة الحكومة ايجاد فرص عمل منتجة لجميع أفراد الشعب، وبذلك استطاعت دولة في ظل ظروف قاسية، وفي مؤخرة دول العالم الثالث، أن تصنع صورة مثالية لما يطلق عليه بالطفرة الاقتصادية، وان تصبح من إحدى دول العالم الأول في فترة زمنية لاتتعدى الثلاثين عاما. في عام 1965م كان إجمالي الناتج المحلي 970 مليون دولار، بينما في عام 1990م قفز الناتج المحلي الاجمالي إلى 5.34 مليار دولار، وقد تم تصنيف نسبة دخل الفرد في سنغافورة في المرتبة التاسعة على مستوى العالم وبذلك أصبحت تضاهي أكبر الدول تطوراً في العالم، الأمر الذي جعل بعض الدول التي شهدت طفرات اقتصادية مثل الصين وفيتنام تلجأ إلى سنغافورة للحصول على الأفكار الاقتصادية الاستثمارية لتحسين مستوى الاقتصاد لديها.. ويرى المؤلفان أنه يوجد أربعة أسرار خلف الطفرة الاقتصادية في سنغافورا: مدخرات مالية مرتفعة، نظام تعليمي صارم، شعب لايعرف الكلل، وتدخل الحكومة في مفاتيح الصناعة في البلاد.
يشير تصاعد الأرقام ومنحنيات المؤشرات الاقتصادية المحلية إلى قرب حدوث طفرة مادية في المستقبل القريب، الجميع يردد هذه المقولة وهو يتابع الأخبار المتوالية عن الارتفاع المتتابع لأسعار البترول، وعندما ندرك جيداً ان هذا الحدث المترقب أضحى هماً شعبياً، وأمراً يتداوله الأفراد في منتدياتهم اليومية، فإننا كمجتمع لابد ان ندرك ان ثمة تطوراً نوعياً حدث بالفعل في المجتمع، وان الطفرة القادمة ستكون مختلفة في معاييرها وأبعادها عن طفرة الثمانينات، لكنها بالتأكيد لن تخلو من مؤثرات شديدة الانفجار، وموروثة من جيل الطفرة السابقة، فالاستثمار النظري في أغلب أفراد المجتمع، ومشاريع استعادة ثقافة القبيلة وسياسة نهج التلقين المبرج خلقت أرضية خصبة للصراع النظري، فالتطرف الذي يستند على أفكار نظرية مجردة، هو في حقيقة الأمر نتاج طبيعي ضد أفكار نظرية أخرى، ورحلة الانشقاق تبدأ عبر البحث عن المتناقضات في الأطروحات النظرية ومدى انفصالها عن الواقع، ثم الترويح لأفكار نظرية أخرى، وهكذا.. والتاريخ القديم والحديث يزخر بنماذج مشابهة، لعل أهمها سمة الانشقاق المتتابع في تاريخ المسلمين، والذي لم يتوقف عن التكاثر والتنافر إلى اليوم، وسيستمر إذا لم تحدث الطفرة أولا في المفاهيم، والتي لن تحدث بدون الاستفادة من منجزات الحضارات التي سبقتنا، والتطور الحضاري والطفرات الاقتصادية لا تعترف بالخصوصية الانسانية، فالإنسان الهندي أو السنغافوري لا يتميز عن الإنسان العربي بطبائع بشرية أكثر تطوراً، لكنه بالتأكيد نتيجة طبيعية لتطبيق الأفكار النفعية والعملية، وسياسة البرامج الاقتصادية التي تسعى لتوفير عمل منتج لكل مواطن، وتؤمن ان أبناء الوطن هم وقود السير في الطريق إلى واقع الطفرة الاقتصادية الحقيقية.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved