عندما اطل من نافذته الصغيرة وملامح الحزن تطفو على وجهه والهموم تثقل كاهله، كان الهدوء يعم المكان وكل ما حوله كان متلبساً بالصمت، رفع بصره فتبدى له منظر النجوم المتلألئة في سماء ليلة تاهت في نفسها، فتدارك القمر الأمر وألقى بضوئه الخافت الروح فيما حوله من جمادات.
فوق خيول الخيال ذات الأجنحة الخفية طار متوجهاً نحو روحه الطاهرة ليجدها فيغيرها، على لوحة الماضي كانت أنامله تحط رحالها، أخذ يغرق في أعماق رسمته ممسكاً بريشته بكل حرفة وثقة والابتسامة لا تغادر ملامح وجهه المتفائلة، غاص في بحر لوحته بكل ما لديه من عقل وتفكير برفقة بعض من مشاعره وأحاسيسه، بلمساته الفنية والإبداعية سارت أنامله دون رعشة تخلفها وبغير خوف يعتري ذاته، شارفت لوحته على الانتهاء، وأخيراً رفع ريشته مختالاً تملأه الثقة والعزة.
بدأ يتأمل فيما أبدعته يداه من جمال يسحر الألباب ويسرق الأنظار، كانت ورودا جميلة بألوان بهية ورائحة في حقيقتها زكية تتراقص وتتمايل على جنبات نهر ممتد بامتداد البصر، أما ما بعده كان هناك جسده الملقى على الأرض فوق الزهور الدافئة وتحت أجنحة العصافير المرفرفة فوقه العازفة على روحه أجمل الألحان وأعذبها، فجأة ودون مقدمات بدأت تتلاشى لوحته عن ناظريه فتلاشى معها نسيج من خيال حياة تمنى لو عاشها أو عاش بعضا منها، جن جنونه وفقد صوابه، وبلا شعور مد يده نحوها لعله يظفر بما بقي من اشلائها، فإذ بسوط حارس السجن كان له بالمرصاد فضرب يده لحظة خروجها من نافذة زنزانته الصغيرة.
|