مقولة باح بها الحكيم العربي، وهو من هو في حذقه للأمور ومعرفة عرصاتها شبراً شبراً، ذلك أن لكل أمرىء غاية ووجهة هو موليها، ذهاباً بنفسه أنه مستحوذ عليها ولو كان دونها خرط القتاد أو الشجا في الحلوق، على أنه ليستمرىء علقمها ويشحذ منها كأطيب ما يكون لذة للشاربين، فما من عاقل حصيف مجرب لمعتركات الحياة إلا وهو آخذ منها بقدر معلوم، تلك الغاية التي وعد بها نفسه ومنَّاها حتى استحكمت على جوامع تلابيبه، وأصبح يشرد فيها بخلده في حل ومرتحل، بل في صحو ومنام.
فلا جرم أن النفس التواقة لما يصلح من شأنها لمفتقرة إلى ما يعضد من وصولها إلى مكمن هدفها المنشود، وتبذل في سبيل ذلك كل غال ونفيس، وتهون ما يفد عليها من معوقات ومتاريس، وتطرح تلك العقبات بعيداً عن طريقها التي تزمع أن تجعله سجسجاً ذللاً للسالكين، ألا وإن الأمل لمطرق إلى حسيس كل ناجع يخولها إلى غايتها، فالأمل أبدا يرنو إلى هاتيك الأيام المقبلات، وينزع عن يده ما اكتنفته السنون المواضي، فالأريب من رأى بعين البصر مردفاً بالعين القلبية التي تعقل باعتبار ما سيكون.
لم أر قط نفساً فترت عزيمتها عن السعي المخب إلا وذاقت الأمرين في تقصيرها عما يقوِّم أوَدَها، ولم تقف الأذنان قط على قول ضارع هذا وشاكله إلا وودت أن يكون بهما وقراً يحول دون السماع لمثله، بل رأيتني ووجدتني كأن كبدي تتمزق فتاتاً لما يعرض لها، فلا هي للسلو معانقة، ولا هي قد استنجدت بمن يرفع من عتبات قوامها وصلبها، فكل ما يقع عليها يؤدي بوميضها في غيابة الجب بلا مواربة.
وأضيق العيش حين تستمرىء النفس الهوان والقعود عن طلب غايتها، وتحسب أن ركوب الراحة والدعة يستطاب لذوي المعالي، وكأنها اطلعت على ما يخبىء لها الزمن بصروفه وحوادثه، فأمنت غدوته، وغفلت عن الموات الذي قد يحدق بها في ثغرة من الثغرات وهي غافلة في حلكة الديجور، وغاب عنها دورة الدهر وتقلباته، فإن بدا بثوبه القشيب العاطر، فهو قناع قد تقنع به، وخمار قد تخمر تحته، كالمرأة الضاربة به على جيوبها، على أنه قد أخفى وأضمر يوماً تشخص فيه النفسي وتجثو على هول لا قِبَل لها به، فتكون رهينة لأوضار الحياة التعسة بأوقاتها، فكل شروق شمس ينبئها عن يوم أشد وأنكى من ذي سالف.
إن كان المرء القادر يتحجج بوعورة المسالك والتوائها، فهو على غيرها أعجز، فكأني به يتريث قدومها عليه وهي ترفل بالدمسق وبالحرير، فهو كالباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وقد أمرنا بتتبع الأسباب وامتطائها، فحري به أن يغالب الأمور ما استطاع لذلك سبيلا وطريقا، وخليق الا ينضي مواطن القاعدين، وما أوتينا إلا من ميل النفس إلى الكسل والعجز، وقد حذرنا الدين منهما، وترك غبش التسويف الذي يشي بالهزيمة المعجلة، والحكمة تلزمنا النظر إلى الناجي كيف نجا وليس إلى الهالك كيف هلك.
والغاية ليس لها أمر مشاع يحق لطالبها أن يصبو إليها، بل عليه أن يؤطرها بأطر الجائز المباح، ومتى ما خرجت عن هذا الاحتشام، ألقت، بصاحبها في مراتع التجهال بلا رحمة أو تؤدة، بل تنسف ما بناه، وتحيق به المكر السيئ الذي لا يفتر عن النكد وتجرع الحنظل أبداً، فليس بالمجهول أن الزج بالنفس في حياض الفناء مذموم ولا يحمد أمره، فكل أريب لابد أن يعي ما توصل التبعات إليه، فعليه أن يطرق في العواقب قبل أن يقدم على غاية ربما لا يسلم له فيها، فتعود على نفسه بالويل والثبور، وهو بمندوحة عن هذه الويلات التي لا تخلف إلا دماراً موبقاً، وربما حسب أن كل مخاطرة قد يهون شأنها، فليست المصائب متساوية في ذاتها، فهنالك ما لا يعوّض بزواله، والعاقل من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه.
|