* تحقيق -ماجد بن عبدالله الزعاقي *
إن مداخل الشيطان على بني آدم لا تكاد تنحصر، فهو يجري منه جريان الدم في الجسد ويتنوع أسلوبه من شخص إلى شخص بحسب ما تقتضيه مصلحة الغواية، ومن هذه المداخل للشيطان على بني الإنسان دعواه لارتكاب المنكر من الفعل تارة باسم يسر الإسلام وعدم التشديد فيه وتارة بفتح باب التساهل مع من عرف منه الميل إلى التفريط.
ومن صور هذه الحالة ما تراه من بعض الناس ممن يقيم على المعاصي ولا يكاد يفارقها وإذا نصح أجابك باطمئنان بأن الله يغفر الذنوب جميعاً وأنه أرحم الراحمين وأنه غني عن تعذيب الناس وأن الله عند حسن ظن العبد فيه ونسي في المقابل تأصيل هذه الأمور وعلى من تنطبق.والأسلوب الآخر الذي يسلكه الشيطان مع بعض الناس ممن علم منهم كثرة التساهل في الأمور الشرعية كأن يسمع أحدهم الصلاة تقام ويقول: لم تنقض الركعة الأولى بعد، وإذا علم الشيطان منه زيادة ضعف طمع منه بالركعة الثانية والثالثة وهكذا.
حول هذا الموضوع قمنا بإجراء هذا التحقيق عن ارتكاب المنكر من بعض الناس بين التساهل وبين دعوى يسر الشرع.
حقيقة التساهل
ففي البداية تحدث فضيلة الدكتور عبدالله بن محمد العمرو رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عن بعض الدعاوى من بعض الناس حول يسر الإسلام وجعل ذلك مطية لركوب المنكر فقال: لقد جاء دين الإسلام ومن مقاصده الرئيسة الارتقاء بحياة الناس وتحقيق الحياة الطيبة لهم وبما يلائم فطرهم وقدراتهم ولذا جاءت شرائع الإسلام سهلة ميسرة ليس فيها ما يتجاوز طاقة المكلفين أو يجلب المشقة لهم كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وهذا الدين بما فيه من شمول وسعة ويسر هو وحده الكفيل بتزكية النفوس وتهذيب الأخلاق وتحقيق الصلة بالخالق تعالى والتواصل الإيماني مع الخلق. إلا أن من الناس من يتجه بدعوى الأخذ بالتيسير إلى التفلت من الواجبات الشرعية والوقوع في صنوف من المخالفات والمحرمات كاللهث وراء جمع المال أو اكتسابه من كل الطرق دون مراعاة الضوابط الشرعية، وكالتوسع في اللباس ولا سيما من النساء في الحفلات بشكل فاضح والمناسبات وغيرها وكالاختلاط بين الرجال والنساء إلى غير ذلك من صور الخلل والتهاون بالأحكام والآداب الشرعية بدعوى يسر الدين وسماحته.
وأكد فضيلته بأن هذا ليس من اليسير الذي جاءت به الشريعة في شيء بل هو ميل مع الهوى واتباع خطوات الشيطان. فالإنسان بحكم بشريته قد يخطئ ويذنب ومن رحمة الله تعالى وتيسيره على عباده أن شرع لهم التوبة تستدرك بها الأخطاء ويمحى بها أثر الذنوب ولكن متى انساق المرء متبعاً لهواه في تبرير أخطائه والتماس المعاذير لتقصيره فسيكون من آثار ذلك أن يتمادى في غيه وضلاله حتى تحيط به خطيئته فترديه في دنياه وآخرته.
توازن الشريعة
ثم تطرق فضيلة الدكتور عبدالرحمن بن معلا المطيري الاستاذ المساعد بقسم الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية إلى مفهوم التوازن في الشريعة الإسلامية ومعناه فقال إن سنة الله عز وجل في خلقه للكون والحياة في التكامل والتوازن.
وأضاف: فالإنسان في نفسه يحتوي جوانب كثيرة مختلفة عقلاً وروحاً وجسداً وعواطف ومشاعر ولكل منها حق ولا يمكن الوفاء بكل حقوقها إلا بتوازن يكملها جميعاً ولا يغلب جانباً منها على حساب آخر..وذلك التوازن هو: الوسطية التي جاء بها الإسلام فلا إفراط ولا تفريط ولا تشدد ولا تساهل ومن علامة توفيق الله عز وجل لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في الحياة الدنيا فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه خائفاً من أن يزيغ قلبه أو تزل قدمه بعد ثبوتها وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن ويجأر إلى ربه عز وجل في دعائه ومناجاته يسأله الثبات والوفاة على الإسلام والسنة غير مبدل ولا مغير ملتزم بتعاليم دينه متبع لأقوال علماء الأمة الثقاة العدول وذلك ليتحقق له العدل والرحمة فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها التأويل كما قال ابن القيم في كتابه اعلام الموقعين.
وبين فضيلته أن هذه الشريعة مبناها على اليسر ورفع الحرج عن الخلق واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (78) سورة الحج.. {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (185) سورة البقرة.. {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (28) سورة النساء.. وقوله صلى الله عليه وسلم (بعثت بالحنيفية السمحة) و (يسروا ولا تعسروا) وقول عائشة رضي الله عنها: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه).
وأكد أن الشريعة الإسلامية في جميع أحكامها جاءت بما يقع تحت قدرة المكلف وإن ترتب على فعله نوع من المشقة إلا أنها مشقة معتادة معتبرة وقد تخرج المشقة على وجه الاعتياد فتسبب حرجاً كبيراً لسبب من الأسباب فها هنا تصبح هذه المشقة سبباً للتيسير والتخفيف.
التعامل المنحرف
وانتقد فضيلة الدكتور عبدالرحمن بن معلا المطيري حال بعض من يتعامل مع يسر الإسلام ووسطيته تعاملاً منحرفاً فقال إن بعضاً من أهل الزيغ والهوى كثيراً ما يتعلقون بستار يسر الإسلام لتحقيق مآربهم ونيل شهواتهم وانحرافاتهم فيتمادون بالأخذ بالرخص ويتساهلون في هذا الأمر حتى يصل بهم الأمر إلى ترك كثير من أحكام الشرع وتعاليمه والوقوع في المعاصي والمنكرات بل الكبائر أحياناً حيث يقول الشاطبي -رحمه الله- (إن الترخص إذا أخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقة الحرجة وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها).
وأرجع فضيلته أسباب وقوع بعض الناس في هذا المزلق إلى الجهل واتباع الهوى لأن المعيار في تحديد الرخصة هو الشرع الذي لا يأتي إلا بخير، في حين أن الجهل بمفهوم يسر الإسلام وسماحته قد يدفع البعض للتوسع بشكل يجعله اقرب إلى التلف وعدم الانضباط والحق في المعيار الضبط والإحكام.
والخطورة في ذلك كونه سلسلة لا تنتهي من التنازلات والآثام والمعاصي تجر أختها دواليك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى) فعلى الإنسان الوقوف عند حدود الشرع وعدم اتباع هوى النفس وخطوات الشيطان وما شذ من رخص أقوال العلماء التي قيل فيها (من تتبع رخص العلماء فقد تزندق).
وعن أحوال من يقع في الذنوب والمعاصي يذكر فضيلة الشيخ عبدالعزيز الشائع المحاضر في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن الحالة الأولى تتمثل بمن يتلبس بالمعاصي من حين لآخر ويرى أنه مذنب وأنه على خطأ وخطر ثم يؤوب ويتوب، فهذا أمره إلى خير إن شاء الله، ويصدق فيه قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(119) سورة النحل. أما الحال الثانية فهي: فيمن يبالغ في المعاصي ويستكثر منها، بحيث لم يترك شعباً ولا وادياً من أوديتها إلا سلكه وكأن شيئاً لم يكن حتى يهون عليه ويصغر في قلبه وذلك علامة الهلاك فإن الذنب كلما صغر في عين العبد عظم عند الله.
لكل شيء سبب
بعد ذلك أشار فضيلة الشيخ الشايع إلى أسباب المعاصي واجملها في النقاط التالية:
أولاً: قلة العلم النافع وضعفه. قال مجاهد وغير واحد: كل من عصى الله خطأ أو عمداً فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب.
ثانياً: الغفلة عن الله. ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلبه لما تجرأ على معاصيه، قال أبو الوفاء بن عقيل: احذر ولا تغتر فإنه قطع اليد في ثلاثة دراهم وجلد الحد في مثل رأس الإبرة من الخمر وقد دخلت المرأة النار في هرة واشتعل الشملة ناراً على من غلها وقد قتل شهيداً.
ثالثاً: التقليل من شأن المنكر والتهوين منه. ذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وان الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار.
وقال بعض السلف: لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر من عصيت.
رابعاً: تغليب جانب الرجاء على الخوف، وهذا خلاف النهج القويم والصراط المستقيم فالعبد الناصح لنفسه من يكون الخوف والرجاء عنده كجناحي طائر، لذا نلاحظ أن القرآن كثيراً ما يقرن بين الترغيب والترهيب كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فلا ينبغي لمن نصح نفسه أن يتعامى عنها ويرسل نفسه في المعاصي ويتعلق بحسن الرجاء وحسن الظن.
خامساً: الغرور بطول الأمل:
سادساً: الجهل بآثار المعاصي الوخيمة فهي تضر في القلوب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر. قال ابن القيم ولا يزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل سبحانه برحمته عليه الملائكة تأزه إليها أزاً وتحرصه عليها وتزعزعه عن فراشه ومجلسه إليها ولا يزال يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله إليه الشياطين فتأزه إليه أزاً فالاول قوى جند الطاعة بالمدد فكانوا أكثر من أعوانه وهذا قوى جند المعصية بالمدد فكانوا أعواناً عليه.
تبرير المنكرات
من جانبه بين الدكتور عبدالمحسن بن سيف السيف وكيل كلية التربية بجامعة الملك سعود وعضو هيئة التدريس أن الفهم الخاطىء لهذا اليسر في الدين جاء وللأسف الشديد بخلاف ما يريده الله من المسلمين أدى لتساهل كثير من الناس بحيث جعلوا من هذا اليسر جسراً يعبرون من خلاله إلى التفريط في كثير من الشرائع والتوجيهات الإسلامية التي لابد للمسلم من القيام بها على الوجه الاكمل، فأصبح هذا الفهم المغلوط من يسر الإسلام وسماحته مبرراً للبعض في ارتكاب المنكرات إما جهلاً أو تفريطاً وكلاهما يجب التنبيه على من وقع فيهما وتبصيره بموقع الخطأ والخلل في فهمه لهذا اليسر والسماحة في الإسلام وذلك بالحجة الشرعية والبرهان الواضح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما هي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه في فهم هذه السماحة وهذا اليسر في دين الله يوضح ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً، كان أبعد الناس منه) متفق عليه.
حماية الضرورات
أما فضيلة مساعد رئيس شعبة الدورات والبرامج التوجيهية بالرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشيخ بسام بن سليمان علي اليوسف فبين أن سماحة الإسلام ويسره لا تعني بشكل أو بآخر التساهل في أمور المنكرات مشيراً إلى الفهم الخاطىء لدى البعض لسماحة الإسلام والتي يظنها تعني التساهل في أمور الدين والعرض وغيرهما وهذا فهم سقيم يدل على جهل صاحبه.وقال: فإن الحياة لا تستقيم إلا بحفظ الضرورات الخمس وهي الدين والعقل والنفس والعرض والمال التي جاء ديننا الحنيف بحفظها مؤكداً أن الإسلام سمح في تعاملاته ويسير في أحكامه في حين أنه أمام قضايا الفساد والإفساد فإن موقفه منها شديد وذلك لحفظ المجتمع وسفينته من الغرق ولذلك شرع الله تعالى الحدود والتعزيرات.
وبين اليوسف أن الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها دور فعال في إيضاح هذه النقاط المهمة والتي قد يخلط فيها أوساط الناس وأنصاف المتعلمين من خلال البرامج التوعوية والنشاطات التوجيهية والمناشط الإعلامية حيث يتم إيضاح يسر الإسلام وسماحته في أحكامه وتعاملاته وصلاحيته لكل الأزمان والأماكن، ولا يعني ذلك التساهل في أمور الأعراض والدين والأنفس والأموال والعقول، فهذا ولا شك يؤدي إلى خلخلة المجتمع، وانتشار الفساد فيه، وانعدام الأمن في النفس وعلى الأعراض، ولعل المثل الواضح في ذلك محاربة الإسلام للسحر والسحرة الذين يفسدون ولا يصلحون فيفرقون بين المرء وزوجه، ويصرفون ويعطفون.. إلى غير ذلك، فإن حكم الإسلام فيهم ضربة بالسيف والقتل، لأن في قتلهم مصلحة للمجتمع، وحياة هنيئة للناس. مع العلم أن العاملين في الميدان لا يتخذون إلا الإجراءات التي يقرها ولاة أمرنا كما يدربون على الرأفة بأهل المعاصي ونصحهم وتذكيرهم والنظر لهم بعين الرحمة والرأفة كما كان الأسوة والقدوة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
* إدارة العلاقات العامة والإعلام بالرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر |