قبل أكثر من ربع قرن أو يزيد كان الملك خالد - رحمه الله - في زيارة تفقدية لمناطق جنوب الوطن نجران وعسير. وفي نجران الأبية لمحت رجلا أنيق المظهر باسم المحيا، وكنت أراه موضع الحفاوة والتقدير من الكل، لما سألت من يكون ذلك الرجل البهي، وجدت أنه الأمير عبدالرحمن بن عبدالعزيز، كان رجلا له منطق آسر إقناعاً وتبريراً، ولم يكن قد شغل أي منصب حكومي. وضعت في فكري إنني لابد أن أحاور هذا الرجل وأخرج بحديث صحفي وسبق لمجلة اليمامة التي كنت كاتبا ومحررا فيها تحت رئاسة محمد بن أحمد الشدي، أحسن الله إليه. وحشرت نفسي طالباً من سموه إجراء هذا الحديث ولكون الرجل كان مشغولا بالمواعيد المسبقة ومرتبطا بالملك خالد في تحركاته وكذا مع الأمير سلطان بن عبدالعزيز منّ الله عليه بالصحة.. ولكني حشرت نفسي في الطائرة بعد ان ابلغت اللواء آنذاك محمد بن صالح الحماد قائد المنطقة الجنوبية، الذي وصل الى رتبة الفريق أول وشغل منصب رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة، ثم ولي منصب مساعد وزير الدفاع والطيران بمرتبة نائب وزير حتى تقاعد وفقه الله.
في الطائرة من نجران الى خميس مشيط، قفزت الى جوار الأمير في أول مقعد في مقاعد الدرجة الأولى، وقلت له سمو الأمير، اعتقد أن الوقت الآن مناسب لتلبية طلبي، فابتسم، وقال هات ما عند، وبدأت في سرد اسئلة متنوعة على سموه واستخدمت آلة تسجيل.
وسبحان الله انتهت اسئلتي في الوقت الذي حطت فيه الطائرة على أرض مطار خميس شهران.. وكان آخر سؤال من نمط الأسئلة النمطية التي مازال بعضها ساري المفعول رغم وجود تخصصات للإعلام والصحافة: من هو عبدالرحمن بن عبدالعزيز؟ تبسم الأمير، وقال هو الذي أمامك؟ طبعا شعرت بالخجل من الضباط الذين كانوا معنا على الطائرة، لكن فرحتي بالفوز بتحقيق سبق صحفي كانت أوسع وأكبر، وتحقيق سبق صحفي له لذة عجيبة في عالم الإعلام، كان السبق انني فيما أظن حتى هذه اللحظة، أنه أول حديث صحفي للأمير، لوسائل الإعلام، نشر الحديث وكان فعلا سبقا مميزا لحقه سبق في حديث مع الأمير خالد الفيصل أمير عسير، بعد تردد منه حتى جاء الله بعاصفة ماطرة، في أثناء الانتظار في المطار لاستقبال رسمي للأمير سلطان ثم بعدئذ الملك خالد، وتم الحديث على زفت المطار وكان ايضا سبقا جميلا لم يفز به كثيرون ممن حاولوا مع الأمير خالد الذي يبدو أنه في تلك الأيام قد تحفظ في الحديث للإعلام.
لم تنقطع صلتي بالأمير، حيث كنت أتابع بعض خطبه، واعجبني خطاب له باللغة الانجليزية أمام حشد من الأطباء، ووجدتني في أماني لو كان الحديث على قناة في أمريكا أو بريطانيا أو أوروبا.
الأسبوع الماضي لبيت دعوة الصديق الإعلامي الشاعر العميق عبدالله بن علي الخشرمي، في تلبية دعوة كريمة من رجل الأعمال على مراد رضا، صديق الأمير عبدالرحمن بن عبدالعزيز، في حفل عشاء وسهرة فكرية امتدت حتى الفجر، دخل الأمير مسلّما ثم وقف معتذرا للحاضرين عن تأخره، بسبب زيارته للأمير سلطان بن عبدالعزيز، ثم طمأننا على صحة السلطان. جرى حوار فكري متنوع كان اكثر سخونة على مائدة الطعام ثم بعد العشاء. لكن القاسم المشترك الأعظم، تركز على هموم الوطن من الإرهاب الذي جرى من بعض أبناء الوطن الذين استخدموا أدوات من قبل الأعداء في محاولات لوقف عجلة التطوير والإنماء، وتعكير صفو وحدتنا الوطنية.
لكن المحور الأكثر تناولا مع الأمير، منّي والأستاذ الخشرمي وعضو مجلس الشورى الصديق منصور عبدالغفار وبعض من المحاضرين، كان عن العمل والفقر والقضاء والزكاة على الأراضي وأوضاع موظفي الحكومة والقطاع الخاص.
قلنا ان تجربة وزارة الدفاع في توظيف ثلث عقود الشراء والمقاولات مع الشركات الأجنبية لصالح الاستثمار الوطني توظيفا للشباب وقطاع الأعمال كان عملا مميزا، ولكن لِمَ لم يكن معمولا به في بقية قطاعات الحكومة؟ أجاب الأمير أنه كان يتمنى ذلك، وقد بذل مع الأمير سلطان الكثير من أجل هذا لكن يبدو أن الأمور لم تكن لها مرونة نظامية مما قصر الحال على عقود الدفاع. ولم يكن الأمير عبدالرحمن راضيا عن التدريب العسكري للشباب الذي عمل به مؤخراً، لأنه تدريب قد لا يستوعب كل من دربوا في وظائف عسكرية، وقلنا لسموه ان الخوف هو أكبر حجما أن يكون للتدريب قوة وفعالية تنمي طاقات الشباب فكريا وعضليا وقد توجع ان لم تجد العمل؟ والمفرح ان سموه قد حبذ فكرة ان القوات المسلحة هي مصنع تدريب وتجهيز الشباب للعمل حيث تذوب قوانين العيب الاجتماعي التي مازال البعض يراها لا تليق ان يعمل بها. فالقوات المسلحة عملها جمعي لا مجال فيه للتأفف من أي عمل هناك العسكري المحترف في تجهيز الطعام، وهناك المحترف في الميكانيكا والسباكة والحدادة والحلاقة، وهندسة الطرق والاشغال المتنوعة واصلاح المدرعات والصواريخ والمعدات الثقيلة ذات التقنية العالية، وكانت أماني في الحوار لو تبنت القوات المسلحة تجنيد الشباب قبل الانخراط في الأعمال في القطاعات المدنية وتدريبهم بشكل جمعي حتى تتشرب الأنفس حب العمل واجادة الممارسة، الأمير وافق على المبدأ، لكنه تحفظ على ان الحكومة ليس بوسعها أن تدرب وتوظف، وان الاجدر بهذا هو القطاع الخاص، وضرب مثلا بشركات الزيت والغاز، والمصارف والشركات المساهمة، فهنالك تدريب مهني أوسع وخبرة اكثر ارتباطا بمجال الأعمال، ولكن شرط ان يكون ذلك بدعم من الحكومة، بكل قوة، وان تكون هنالك رواتب مجزية، ورأى الأمير ان لا يقل اي مرتب لأي سعودي عن عشرة آلاف ريال، فهذا استثمار مربح للوطن بكل المقاييس.
جاء الحوار عن الفقر الذي يشكو منه الوطن، وقلنا لسموه أن الطبقة الوسطي في بلادنا تكاد تنقرض، فمن مرتبه عشرة آلاف وأقل هو تحت مستوى خط الفقر بمقاييس المعيش اليوم مقارنة بما كان من ثلث قرن حين كان آخر إقرار لمرتبات موظفي الحكومة، فمن كان يشتري سيارة بـ30000 ريال هي اليوم فوق الـ100000 ريال، كان كيس الأرز 70 ريالا واليوم لا يقل عن الضعف، ثم ان من كانوا شبابا قد تقاعدوا بمرتبات، لا تلبي متطلبات معيشة الأطفال الذين باتوا شبابا أكثرهم عاطلون عن العمل، ثم ان نظامنا الاجتماعي يوالي اعتمادية الإعالة على الأب حتى بعد التقاعد حتى يجد الشباب - الشابات عملا، ودخلا، وهنا فقد بات الفقر ذلاً بالنهار وهماً بالليل والنهار أيضاً.
قال الأمير، نعم هذا صحيح، وأنا أرى أنه فوق ما ذكر، فإن اشباع الموظفين عسكريين أو مدنيين واغناءهم هو ما سوف يحقق الكثير من الرضى الحكومي ويزيد من كفاءة الأداء ولا يدع أي مجال للبحث عن دخل آخر بطريقة أخرى، أنا ارى ان الوزير ايضا راتبه الآن 45000 ريال، ولكن المفترض ألا يقل عن 200 ألف ريال، لأن الوزير او وكيل الوزارة او اي موظف يوقع عقودا مع شركات بالملايين، وحينما يجد ان مدير الشركة الذي يوقع معه مرتبه لا يقل عن 100 - 150 ألف ريال فإن ذلك قد لا يدفع الموظفين لدفع الأداء كما ينبغي، وهنا فإن إغناء القاضي والموظف سوف يبعد شبح التفكير في مسالك أخرى؟ أنا اعتقد أن إغناء العاملين سوف ينعكس على تحسين الاقتصاد، وحركة السوق، وارتقاء مستوى المعيشة والمزيد من الإخلاص للعمل، وهذه الأمور مردودها للوطن، وسيكون هنالك توفير لكثير من المال العام؟
أشار الأمير الى أنه كان أول من اقترح على الملك فيصل - رحمه الله - إنشاء وزارة العدل، وهنا قلنا للأمير: القضاء يا أمير كل شيء فيه بقضاء، ويحتاج الى العدل والاعتدال.. وبوضوح اوسع لدينا عجز كبير في عدد القضاة، مقارنة بعدد المحاكم والقضايا، هنا في جدة الخير هنالك آلاف القضايا الحقوقية والتوثيقية والمرافعات الحقوقية الجنائية تمر السنوات ولمّا ينظر فيها، ولسنا في فقر وعدم من وجود المتخصصين في الشريعة، لكن الاقتصار على جامعة واحدة ومنطقة واحدة في توظيف القضاة هو أهم المؤشرات على تراكم القضايا.. كان جواب سموه العلم بهذا، لكن ما يتخذ على مستوى القيادة هو تحقيق العدالة في كل الأمور، وضرب مثلا بتنوع نشاطات المواطنين من كل أطراف الوطن في تداخل وتشابك للمصالح والأعمال فرجال المال والأعمال في الشرقية هم في الغالب من مناطق جنوب البلاد ورجال الأعمال في جدة هم الأغنى وهم عينة جميلة لكل مناطق الوطن، أما الرياض فهي السجادة المنسوجة بكل أطياف الوطن، وكذا بقية المناطق، وقال الأمير دعوني اضرب لكم مثالا بالقبول في الكليات العسكرية، إننا نحاول أن يكون القبول فيها ممثلا لكل قرية في الوطن، ولو رأيتم الدفعات المتتالية لوجدتم صدى هذا التنوع لكي يكون لكل أبناء الوطن شرف الخدمة في القوات المسلحة بكل قطاعاتها.
اختلفنا مع الأمير في مسألة تحصيل زكاة على بيع وشراء الأراضي، التي هي معدة أصلا للمرابحة وعروض التجارة وتتوجب عليها الزكاة وفق الأحكام الشرعية، إذ لسموه رأي ان المملكة قامت على مبدأ حرية رأس المال، ولا رسوم أو ضرائب، وكلما كان المال حرا عمّت بركته الجميع، فبيع الأرض من شخص الى آخرين فيه فتح للرزق للناس من بعضهم البعض، ولم يفسد عدم الاتفاق مع الأمير حرية الحوار وجديته وحميميته.
كان هنالك رؤى وأفكار طرحناها عن المنظور المفترض لزيادة تفعيل العمل من اجل مصلحة الوطن، في موضوع عدالة التوزيع للتنمية على مناطق الوطن، وتجاوز ما اقتصر على حواضر معينة قد نالت الكثير من الخير الوفير، موافقة الأمير تعدت هذا الشأن الى عمق في ضرب مثال حي لما كان يجب ألا يتم، وذلك في قرار دمج شركات الكهرباء في مناطق المملكة في شركة مركزية واحدة، وكذلك الحال مع شركة الاتصالات. فقد تركزت مركزية ما كان لها موجب في عصر تفتيت المركزية والتخلص من الآثار البيروقراطية. لقد أدى هذا القرار الى تقليل الربحية التي كانت توزع على حملة الأسهم، وكذا التنافس، ناهيك عن التوظيف للمؤهلين للعمل، ولعل منطق الصدق والعدل يقضي بوجاهة وصحة هذا الرأي الإيجابي من الأمير الجليل، فقد فُقدت روح التنافس وعاد الأمر وكأنه عمل حكومي لا يخرج عن تفكير يبحث عن ربحية وإنتاج؟!
وقبل الختام، جاء حديث للدكتور الشيخ عبدالله المصلح، بملاحظته ارتفاع نسبة العنوسة والطلاق، وسأله الأمير عن المسببات، فكان جواب الفقيه الذي يعرف نصف العلم: لا اعلم، أما جوابي فكان أنه الفقر يا أمير، كيف يستمر الزواج والشاب لا يجد عملا، وان وجد فبمرتب حقير، لا يسمن ولا يسدد ديون المهر، ولذا لا يمضي شهر العسل حتى يبدأ الجوع والفقر، ولا حل سوى بعودة العريس الى بيت ذويه كسيرا، وكذا البنت راسبة او حاملا لهموم تنوء بحملها الجبال!
لقد قال الأمير أيها الاخوان لقد سعدت هذا المساء رغم طول السهر، بما سمعته، واريد ان اقول ان مثل هذه الآراء هي ما نتمنى سماعه، ودون هذا فلا يمكن للقيادة ان تعرف كل مشاكل الناس، ومن حقنا عليكم ان تسمعونا دائماً الآراء، شفاهة وكتابة ومقابلة فهذا نهجنا الذي درّبنا عليه والدنا جميعا الملك عبدالعزيز الذي وحّد هذا الكيان هو وكل الخيّرين من رجال هذا الوطن بكل ارجائه، أنا يا إخواني، اشكركم ان تخاطبوني بالأمير، ولكن بدونكم وعونكم ليس لنا امارة، الامارة هي شرف خدمة الشعب والوطن، وهذه سوف تتحقق أكثر شمولا بما نسمع منكم من رأي ونقد، وتصبحون على خير. وأدركنا الصباح، لكن الكلام متاح ومباح، واتمنى ان استمع الى عبدالرحمن بن عبدالعزيز فقد تغيّرت صورته لديّ عمّا كانت قبل ثلث قرن، لقد زادت بهاء بالفكر الوطني النيّر، والطرح الايجابي المبهر بهموم الوطن. شكراً أبا عبدالعزيز.
باحث ومستشار إعلامي
YOSR46@HOTMAIL.COM
|