في العدد رقم 60 للمحلق الثقافي بجريدة الجزيرة، طالعتنا قصة قصيرة بعنوان: (الخارج عن أسوار الوقت) ل (صالح أحمد القرني).. ومثل هذه القصص أولى بالقراءة وأولى بالرعاية والاحتضان، من غيرها، لأنها تشتمل على المضمون الإبداعي والعمل الفني نفسه الذي تتوق إليه الساحة الثقافية.. ففراغ هذه الساحة من الأعمال الإبداعية يجعل النقاد دائماً ينتقدون أدباً غير مكتوب.. ذلك أن العمل الإبداعي الموجود، أو الذي تقذف به المطابع بين حين وآخر كالقصة، والرواية، والمسرح، نادر جدا وضحل جداً.. فهي وحدها التي يمنكها رصد المواقف الاجتماعية، وهي وحدها التي بوسعها التصدي لقضاياها الأخلاقية.. وأن يجد فيها النقاد عملاً حقيقياً يكتبون عنه.
فعندما يبارح الفحول مضارب الحي في إحدى القرى التي سنعرفها لاحقاً في هذه القصة، يظهر بائع التجرئة القادم من بعيد.. فهو يتقن التسلق فوق أسوار الزمان.. ويظهر عندما يختفي الآخرون.. فيتودد بابتسامته المفتعلة للأطفال اللاهين في ملعبهم بالشارع ومن بينهم الطفل (علي) .. ويشوب تودده التصنع الواضح.. فهو كمن يزمع بتصنعه هذا عقد صداقة ودية أو صفقة ودية معهم لحاجة في نفس يعقوب.. يتركهم وهو يجوب الأزقة حاملاً بضاعته فوق كتفيه.. منادياً على بضاعته بصوته الآسر في غياب الفحول.. فنفهم أن الطفل (علي) بالذات يتوجس من ابتسامة بائع التجزئة المتجول هذا ولا يرتاح إليه.. بل إنه لا يستلطف ثغره المفتر عنوة على محياه بتصنع الابتسام.. ولا يستلطف ظرفه ولا لباقته.
ومأساة البائع المتجول هذا، هي أنه قد وصم في فحولته ذات يوم.. لذلك هو يتناسى وصمة العار التي لحقت به، وينسى مأساته في تجواله المريب، عندما تمتد إلى قلاعه الداخلية أو حصونه أصوات أنثوية مخضبة بالغنج والدلال.
ثم نفهم من سياق القصة أن (علي) هذا بالغ الوسامة.. وأن وجهة القمري يزداد جمالا عندما يغضب فيضاهي بإشراقته كل الشموس المتناثرة على قارعة الطريق التي تميز حارة القرية.. فالراوي قد أسبغ كل تلك الأوصاف على (علي).. هذه الأوصاف ليست في الحقيقة إلا جزءاً يسيراً من أوصاف امه وملامحها وقسماتها.. ولا يمكن لأحد منا أن يلوم بائع التجزئة الأفاق هذا، بسبب التعلق بامرأة هذه أوصافها، وهذه ملامحها، وهذه قسماتها التي ينعكس بعض منها على وجه ابنها.. وفوق هذا تترك له باب موارباً ليدخل منه.. وقد دخل..!.
ويقر في خلدنا أيضا ونحن نقرأ القصة أن هذه القرية ليست من قرى الصحارى ولا من قرى الثغور.. لكنها قرية تقع في واحة من هذه الواحات المنتشرة بين صحارينا وشواطئنا في نفس الوجهة التي هام فيها الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد وهو يسير بإتجاه (دلمون).. فتغني ب(خولة) على أطلالها الدارسة التي تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.. قرية تتميز بخمول وقت الضحى وكسل وقت الأصيل.. لذلك نسمع تغني بائع التجزئة هذا أيضا بوسم امرأة بدوية تختضب دماً عاطراً..غيداء في بيت من الطين.. فيتنهد من صبابة الوجد المحتقن في قلبه وهو يلامس بيديه ملامح وجه إبنها (علي) .. مداعباً اياه في وسط الطريق.. متمنيا منه في نفسه أن لا يلومه في هواها بسبب الجوى الذي طغى عليه.. فابنها قد اكتسب جزءاً من سحر هذه الجاذبية الطاغية عن أمه والتي يمكننا أن نفهم من سياق القصة أنها ذات جمال أخاذ.. فهو يظهر له الكثير من الشغف والود والتلطف ليس من أجله حتماً ولكن من أجل تلك التي أنجبته.. ولعل هناك الكثيرين مثله.. يتوددون بنفس الدافع من مودة مكذوبة مفتراة إلى أطفال تكون أمهاتهن جميلات.. ثم يدلف إليها في زقاق الحارة الذي يقع على شارعين.. تقع في بدايته (بقالة) ويقع في نهايته المسجد الذي يؤذن فيه والد (علي) للصلاة.. حيث تقوم البلدية قبل وجود الكهرباء في ذلك العهد البعيد، بتوزيع اثنين من الفوانيس في كل زقاق.. فتضع أحدهما أمام البقالة والآخر في المسجد.. فيدلف البائع إلى بيت أم (علي) فتسأله (أم علي) عن أي جديد لديه.. فيعرض عليها قماشاً يسميه (الفانوس).. فهو يطلق دائماً على كل بضاعة عنده اسم معلم نهضوي جديد كعلامة تجارية من أجل ترويج بضاعته.. ولأنها واثقة من مساحة العلاقة التي تربطهما معها فهي تقلب القماش بين يديها الناعمتين بينما البائع يغوص فيها بعينيه.. وحتما هي تدرك بحلقته وغوصه في ثقوبها.. ثم يقول لها أنها ستكون أول امرأة تلبسه في القرية.. فتقول له أن ذلك ليس بحاجة إلى تأكيد.. وأنها ستأخذ منه قماش (الفانوس).. ثم يحترق فتيل هذا الفانوس.. وهذا يفسر لنا أن هناك شيئاً ما قد جمع بينهما من قبل.. شيئاً ما يربط بينهما قبل يومنا هذا الذي عرفناهما فيه.. وسيظل إلى ما بعد يومنا هذا الذي سنعرفهما فيه..
***
ويبدو أن أحداث القصة قد دارت في فصل صيف قائظ.. فنحن نشعر بخمول وقت الضحى وكسل وقت الأصيل في تلك القرية، في ذلك الزمان الذي نجهله ولا نجهله.. ونتصور كيف يمكن أن يكون الإحساس بالسكون المستديم مرهقاً، في ليلها ونهارها، عدا هذا الضجيج الثائر كالبركان الذي يبعثه البائع المتجول كلما زار حارة القرية.. فيبدد بضجيجه وصوته الآسر صمت وهدوء القرية كلها.. ثم تصدر الأنفاس زفراتها في هجير الغداة.. فلا نجد عذراً لمثل هذا الإحساس بالزفير لدى ساكنيها.. فالطبيعة لا يمكنها أن تلغي الشعور بالنوازع الآدمية.. لأن الشعور بمقاييسها ليست استثناء على فئة بعينها من الناس أو على أحد من الجنسين.. أو بصحب صفة الإيمان أو صفة الفجور لديهما.. أو فيما يفعلانه جهارا من الطاعة أو فيما يأتيانه خلسة من المعصية.. لكنها تظل مشحونة بإطار الميراث البيئي الذي يمكنه أن يصد أو أن يشد.
***
يقول البعض، ممن يقرأون مثل هذ الرصد في تعقب طوايا النفس البشرية، فيما تصوره القصص الأدبية، على إطلاقها، أن في مثل هذا التداعي، تطاول فاحش على القيم الاجتماعية النبيلة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية.. وكأنهم يتسترون على البواعث التي يمكن ان تنشأ حقيقة في مثل هذا الحالات في بقعة ما.. حتى ولو كانت في الأرض العربية.. كأنما المطلوب هو تغليف الزيف دائماً.. فإن إبراز المثالية إلى درجة الغلو والنفاق، عندما لا تكون هناك مثالية، لا يبرز إلا واجهة مهمشة من نصوص اجتماعية مستترة ومنهارة بفعل الإدعاء ولس بفعل الأداء.. وشتان ما بينهما..!!
***
لكن الذي جعل نص السياق البنيوي لهذه القصة المضغوطة بالمشاعر، مبتوراً إلى درجة الخذلان، هو هذا التيه في خاتمتها الذي أراده الراوي بقصد منه أو بدون قصد.. فهو قد تكتم عن البوح بمن شوهدت ذات يوم وهي تخرج من دار هذا (اليعقوب)، والذي لم يكن في الحقيقة سوى ذلك البائع المتجول.. ويظهر أن هذا الاسم قد أطلقه الراوي على البائع عندما ذكره في مطلع القصة فقال إنه يتودد للأطفال في الحارة لحاجة في نفس يعقوب.. فبدا له أن يرسل عليه هذا الاسم بهذه السهولة لأننا جميعاً علمنا فيما بعد ما هي حاجته وما هي حاجة يعقوب.. ولئن ظفر بمبتغاه وحاجته في عتمة عن أضواء الفوانيس، فإن عتمة الدجى مع كل أسرار الدفينة لهو أشد إثارة واشد ضراماً من احتراق أي فتيل.
***
وبما أن الشخصية المركزية في هذه القصة هي شخصية الراوي نفسه فلسنا نرى ما يشفع له بعدم تعلقه بها هو الآخر.. فلسنا نفهم جميعاً لماذا قيل إن (يعقوب) قد ارتبط بامرأة شوهدت تخرج من داره ذات يوم.. وأنه قد ارتبط بها خفية عن الأعين اللعينة.. ذلك أنه لو كان الرباط مشروعاً مع تلك التي انزلقت خارجة من داره لما تحفظ (القرني) في سرد الحقيقة.. لكن يبدو أن رصد الراوي للمرأة اياها قد بدأ مبكرا منذ ان كان يافعا.. ولما بلغ أشده كان رصده لها أكثر تركيزا عن ذي قبل.. من يدري.. إنما الذي حارت نفوسها فيه هو كيف راح يستفسر عنها (علياً) بالذات.. فهذا هو ما أضاع علينا الفرصة لأن نفهم من هي.. وهل هي واحدة أخرى..؟ ولماذا هي..؟ بل وأضاع لذة النص الذي بلغ ذروته في تذوقنا.. ثم اختلف المذاق.
أكاد اثني على (صالح القرني) على رصده وعلى توغله.. وعلى تأطيره لسلوك أفراد قصته.. وترجمته لظاهرة تفشي إفرازات وقت الفراغ.. فأنا أحييه من بعيد لانه يذكرني ب( البرتو مورافيا) في إيطاليا و (فرانسواز ساجان) في فرنسا.. فالأوروبيون ليسوا بأحسن منا إبداعاً لو أردنا أن نبدع وأن نثري الساحة الثقافية بمثل ما رصده وما أبرزوه من دخائل النفس الإنسانية نوازعها.. فنحن نقدر على مجاراتهم.. بل ويذكرني بموجة التعرية الأدبية لكثير من الواجهات الآيلة للسقوط في المجتمعات البشرية أينما كانت..لذلك آثر (القرني) أن يتركها ويتركه وشأنهما فيما يأتيانه من الفعل والأفعال.. وأن يتركنا نحن أيضا لشأننا فيما يمكننا فهمه لا يستطيع البوح بأكثر مما كان.. لذلك فهو يذكرنا من وسط كل هذا التيه بصوت جهوري قوي هذه المرة ولكن من نوع آخر.. فنسمع ارتفاع حنجرة المؤذن من فوق منارة سامقة تردد إلى أسماعنا نداء الدعوة إلى الصلاة.
***
وبدون مخافة من أولئك القوم، فكلنا بلا شك ملتزم بالفطرة السوية وذاهب ليصلي.. لأن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً..!.
|