في كتاب (التفسير السياسي للإسلام في كتابات المودودي وسيد قطب) يرفض الشيخ أبو الحسن الندوي -مؤسس رابطة الأدب الإسلامي العالمية- أفكار هذين المفكرين الإسلاميين التي تتصل بمفهوم الحاكمية وتكفير المجتمعات، كما تطرق لهذا الموضوع في كتابه (مسيرة حياة).
وإذا كان المودودي أو سيد قطب قد أيدا فكرة الدعوة للأدب الإسلامي، فهذا لا يعيب الأدب الإسلامي ما دام لم يرتبط بأفكارهما الخاصة ولم يصدر عنها، وهذا تم توضيحه في مقال الأسبوع الماضي عند تفنيدي لفرضية خاطئة أثمر عنها اجتهاد الصديق العزيز د. محمد عبدالله العوين في فهمه للادب الإسلامي ورابطته، وقد أثمرت هذه الفرضية نتيجة خاطئة مثلما انعكست على فهم غير صحيح لرسالة الأدب الإسلامي وفلسفة معالجته للحياة الإنسانية.
يتساءل أخي الكريم د. العوين (... لماذا نريد من الأدب أن يكون مفصلاً مقصصاً منمقاً ملائكياً مثالياً غير إنساني؟! ومن منا كذلك؟ ومن منا بلا خطيئة؟ من منا بلا أشواق وأسئلة وحيرة وأهواء ومطامح ضالة غير راشدة؟). ثم يقول (هل يريد المنظرون لنص أدبي صغير أن يتحمل كل هذه المسئوليات فيقوم بالأدوار الآنفة المذكورة، وينفي بجرة قلم في قصيدة أو قصة كل شرور الإنسان وآثامه وخطاياه وأوزاره، ليحل محله الإنسان الآخر المختلف الحلم؟). (كتاب كلمات ص50)
وهنا أقول لصديقي العزيز د. محمد إنه إذا صح أن هذه هي طريقة تفكير المنظرين للأدب الإسلامي، فأنا أول المعترضين عليه؛ لأنه بعيد كل البعد عن الإسلام وتصور الإسلام للحياة، فالإسلام دين واقعي يكرم الإنسان ويعترف بقصوره البشري وعيوبه، ولكنه في الوقت نفسه يدعوه للارتقاء وتجاوزه والارتفاع فوقه.. لهذا وصف الله رب العزة والجلال نفسه بأنه الغفور الرحيم واللطيف الخبير بعباده وشئونهم، وقد ورد في الحديث بما معناه أنه لو لم يكن هناك عباد يخطئون لجاء الله بغيرهم يخطئون فيستغفرون فيغفر لهم.
من هذه الرؤية الواقعية في الاسلام انطلقت فكرة الأدب الإسلامي، ولا أعرف كتابا في الأدب الإسلامي التنظيري أو في الابداع يقول بغير هذه الرؤية الواقعية التي تنطلق من صميم التصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون، فلا مجال للقول بأن (الأدب الإسلامي مدينة فاضلة لا يعيش فيها إنسان)، فمثل هذه المدينة لا يعيش فيها إلا الملائكة، وقد كرم الله ابن آدم وجعل الملائكة تسجد له، مع علمه بأنه سيفسد في الأرض ويسفك الدماء.
أليس هذا التكريم إقراراً من رب العزة للجهل بإنسانية الإنسان وبضعفه البشري وعيوبه؟ ولكن هذا الإقرار والتكريم يتضمن الدفع بالبشر للاجتهاد والكفاح في هذه الحياة من خلال مكابدة الشهوات والمطامح وضعف النفوس والارتفاع فوق مستوى الذات إلى مصلحة المجموع، فمن انتصر في هذه المعركة استحق أن ينال ذلك التكريم.أليس هذا التصور الإسلامي للحياة البشرية تصورا دراميا يحمل فكرة الصراع بكل ما تحمل الكلمة من معنى؟! فكيف يتخيل أخي العزيز الصديق الدكتور محمد العوين أن دعاة الأدب الإسلامي يريدون أن يفرضوا على الناس تصوراً آخر غير هذا (الواقع) الذي أكرم الله به الإنسان؟! ولا أدري من أين جاء أخي الدكتور العوين بفكرة أن دعاة الأدب الإسلامي يعقدون الندوات والمؤتمرات لفرض توصيات (لا يستطيع الأدب احتمالها ولا الفن ولا الخيال الإنساني) ويلزمون (كل مُعبِّر بما يريدون ان يكون عليه هذا النص الأدبي؟) (ص52) وإذا صح ما تصوره أخي الدكتور محمد فكيف انفرد به وحده ولم يتنبه له الآلاف المؤلفة من دعاة الأدب الإسلامي وأدبائه؛ لأنه تصور خطير يخرج عن رؤية الإسلام الواقعية للحياة، بل انحراف عن حقيقة نظرة الله لعباده؟!
لهذا كله فإني أطلب من أخي العزيز الصديق د. محمد العوين مراجعة اجتهاده الذي لم يقم على نصوص أو وقائع تؤكد ما فهم، فالادب الإسلامي ليس مدينة فاضلة وليس (مربعاً صغيراً محدوداً محبوساً ممنوعاً عن الهواء والرياض والرياح والأنوار لا يدخله أحد ولا يخرج منه أحد ولا يدنسه خليط أو هجين) كما يقول (ص52). وإذا كان الادب الإسلامي بهذا التصور الذي رسمه أخي الدكتور محمد فهو ليس أدباً ولا فناً وإنما فلسفة إفلاطونية أو تفكير محدود ضيق بعيد كل البعد عن نظرة الإسلام الواسعة للحياة وواقعيته في التعامل معها، ولا يوجد في أدبيات رابطة الأدب الإسلامي ولا في مقررات مؤتمراتها وندواتها العالمية ما ينص على حصر الأديب المسلم في دائرة مغلقة والزامه بمثاليات لا تحتملها الحياة الواقعية وطاقة البشر. لهذا أكد المبدأ الأول في النظام الأساسي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية على (المسألة الفنية) في تعريفه للأدب الإسلامي بأنه (التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق التصور الإسلامي).. إذن فهو في المقام الأول (تعبير فني) وليس تعبيراً مثالياً أو فلسفياً أو دعوياً، وهذا تأكيد على الانتماء أولاً لجنس (الأدب)، وكلمة (الهادف) تؤكد على (الالتزام)، والالتزام موجود في كثير من المذاهب الأدبية، كما أن الالتزام بالتصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون مطلب عقدي لا يخص الأدباء الإسلاميين وحدهم بل يخص كل مسلم، ما دام الإسلام ليس عبادات فحسب بل منهاج حياة، والأدب الإسلامي في هذه الحال لا يطلب من الأديب أكثر بما يطلبه الإسلام من المسلم الحق، وتبقى المسألة تحصيل حاصل إذا التزم المسلمون بهذا (التصور) الذي يطلبه منهم دينهم وانعكس هذا التصور على كل جوانب حياتهم، فلن يكون في المجتمعات المسلمة أديب إسلامي وأديب غير إسلامي!
أما أن يقول أخي الدكتور محمد بأننا (في وسط لا يحتاج إلى من ينعت حالاته الأدبية أو الفنية بالإسلامية لأنه كذلك بالضرورة). (ص51)
فإني اعتبر هذا نظرة مثالية شبيهة بالمثالية التي وصم بها الأدب الإسلامي، والأمر ليس اختلافا في التفاصيل أو حالات شاذة كما يقول (ص51)، وإنما هو (التزام) عند بعض الأدباء المسلمين يخالف التصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون.فماذا تقول مثلاً عن أديب عربي مسلم يعبر في مضامين أعماله الفنية عن الفكر الماركسي وعقيدته، أو الفلسفة الوجودية أو العبثية أو غيرها من الفلسفات المادية التي تخالف التصور الإسلامي في جانب من جوانبه؟ هل يسمى أديباً إسلامياً؟ وهل يستوي مع الأديب الملتزم بهذا التصور؟!
نعم كلهم مسلمون ما داموا يعلنون جميعاً أنهم مسلمون، ولم يحدث أن كَفَّر مسلم مسلماً في هذه المسألة؛ لأن الجميع يعرف أن العقيدة موطنها القلب ولا يعلم حقيقتها إلا الله، ولم يحدث أيُّ ذكر لمسألة (التكفير) في أي معركة من معارك الأدب الإسلامي بين اثنين أو أكثر من الأدباء المسلمين.
والبقية الأسبوع القادم إن شاء الله
|