لقد كانت المملكة العربية السعودية بحق هذا الأسبوع سيدة الأخبار وشمس وكالات الأنباء في هذه الظلمة الفاحمة التي تخيم وتضرب بأطنابها على العالم العربي وتلتف على أعناقنا حتى تكاد تمنع عن هذه البقعة من العالم الحق في الهواء من النجف إلى جنين ومن البحر المتوسط إلى الخليج. وتمثل ذلك في الخبرين اللذين خرجا طازجين مفاجئين لمن تعوّدوا على تصنيفنا خارج التاريخ فيما عنيت وكالات الأنباء ومراسلوها بإبرازهما وملاحقة المواطنين على المستوى الرسمي والمجتمعي من المعنيين والمتابعين باستطلاع الآراء أو التفاصيل حولهما.
وفي هذا المقال سأقف على عجل نظراً لضيق الحيز وطبيعة موضوع الخبرين عند كل منهما وقفة قصيرة تحاول أن تلقي بعض الضوء التحليلي على البعد الاجتماعي للخبرين. وإن كان ذلك سيأتي بشيء من الاقتضاب في تناول الخبر الأول تحاشياً لإثارة أي حساسيات وبقليل من الإسهاب بالنسبة للخبر الثاني وبكثير من الامتنان والتثمين العميق للقيادة على موقفها الشجاع في العمل على إنجاز الخبرين.
أولاً، خبر المحاكمة العلنية:
كان الخبر الأول هو الخبر الخاص بالخطوة المشرفة التي اتخذتها الدولة بإقرار عقد محاكمة علنية مفتوحة للمواطنين الذين لم يفرج عنهم بعد ممن أوقفوا في الشهر الأول من العام الهجري الحالي فيما صار يعرف بحسب الصحف باسم قضية البيانات الإصلاحية. وقد جاء الخبر يتصدر عدداً من المطبوعات العربية والأجنبية وبعضها بدا وكأنه غير مصدق أن هذا يحدث في أرض الرياض. ولم يكن ذلك الموقف المستريب إلا قصوراً في التلقي. فالذين لا يصدقون غالبا ما تأتي شكوكهم من جهل بالمجتمع السعودي قيادة وشعباً ونخباً متعددة كما أنهم يصدرون في عدم تصديقهم من نظرة جامدة للطبيعة المتحركة للمجتمعات فيما يتهمونها بالجمود والتحجر ولذا فهم لا يقدرون حقيقة التحولات الاجتماعية والسياسية حق قدرها. وربما لا يعرف العالم إلا القليل عن الأنظمة العدلية بالمملكة سواء ما يتعلق منها بالحقوق المدنية أو السياسية. ومنها على سبيل المثال، عدم الإيقاف إلا بأجل محدد ومحدود للتوقيف على ألا يكون التوقيف إلا بأمر مسبب وتقرأ على المتهم فور اعتقاله تهمته وحقوقه، مع ضمان حق المرافعة للمتهم وتفنيد ما يوجه إليه من تهم والاستعانة بمحامٍ. وقابلية الأحكام الجزائية للاعتراض وكذلك حق الخروج من التوقيف بكفالة. وهذا ما نأمل أن يُتاح للموقوفين المعنيين الآن.
وفي رأيي أن المحك لتصحيح تلك النظرة الجامدة التي قد تذهب في الجهل أصلاً بوجود مثل هذه الضمانات الحقوقية بالمملكة إلى أبعد من الحكم القيمي لهذا الصحفي أو ذاك السياسي إلى التشويش على صورتنا في العالم هو المضي في التأصيل لمثل هذه الخطوة غير المسبوقة التي مثلتها علنية المحاكمة بتقنينها كجزء لا يتجزأ من منظومة عقد الحقوق والواجبات بين الدولة والمواطنين هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى فإن ضمان نزاهة القضاء والحياد الرسمي في تحديد مسار مثل هذه المحاكمة التي بدأت بداية إيجابية مشجعة بترك الحرية للموقفين أنفسهم تحديد المدة التي يحتاجونها للرد على التهم التي تلاها عليهم علانية الادعاء بحضور أهلهم والمهتمين والصحافة بما فيها ممثلو الوكالات والصحف الأجنبية سيكون له دور حاسم ليس في تصحيح صورتنا في عيون الآخرين وحسب بل، وهذا الأهم، في توطيد اللحمة الوطنية بين أبناء هذا الوطن قيادة ومجتمعا. وأيضا في تأكيد مصداقية تصريحات الإصلاح الوطني الذي بادرت الدولة نفسها إليه وأعطت المواطنين منديل الأمان للمشاركة فيه. وذلك تمثلاً لما جاء في خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز في افتتاح أعمال السنة الثالثة من الدورة الثالثة لمجلس الشورى في السادس عشر من شهر ربيع الأول العام الهجري الماضي وكذلك توجيهات سمو ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في افتتاح المؤتمر الأول لمركز الحوار الوطني من نفس تلك السنة الذي جاء في إطار مبادرة سموه لدعم التوجه الملكي بمشاركة المواطنين على اختلاف مواقعهم وأطيافهم في مشروع الدولة للإصلاح السياسي والإداري وتعميق التقارب الاجتماعي. إن علانية المحاكمة في رأيي وموقف وزارة الداخلية الإيجابي في التصريح الأسبوعي لأهالي الموقفين بالزيارة الذي يمكن التوسع فيه يمثل انسجاماً مع هذا التوجه بما نرجو من الله أن يكون خطوة أولى ترد الاعتبار للعمل السلمي المشترك يداً بيد دولة ومجتمعا بما يحمي وحدتنا الوطنية من الأخطار المحدقة وممن يتربصون بما قد يحسبونه فجوات. وليس لنا إلا الاعتصام بحبل الله في حب تراب هذه الأرض.
إنني أكتب هذا الكلام وأرى الدهشة تعقد بعض الألسنة لا لأنهم قد يختلفون أو يتفقون مع ما جاء فيه ولكن، وهذا الأهم، لأنهم لا يكادون يصدقون استعداد القيادة في الإصغاء للمواطنين وقد يكون بعضهم أشد خشية للحوار وللشفافية من السلطات. وفي ظني أن تجربة المصارحة والتدارس والتفكير بصوت مشترك قد تكون جديدة على مجتمعنا إلا أنه ليس من بد من الصبر على بعضنا البعض لريثما نتعلم التجربة ونتدرب على صعوباتها فهل ننجح؟
ثانياً، خبر صدور
لائحة الانتخابات البلدية:
بكثير من الاعتزاز والثقة والتفاؤل غير الحذر في حدود تجنب المبالغة في التوقعات تابعت طوال يوم أمس وأول أمس الصحف المحلية والخارجية يتصدر عدد منها خبر صدور لائحة الانتخابات البلدية. كما تابعت بعض ما اقتطفته وكالات الأنباء من زبدة الخبر أو ما أفاضت فيه بعض القنوات الفضائية والإلكترونية والورقية من تعليقات لم يخل معظمها من تساؤلات. وقد تراوحت هذه الأسئلة وتعددت من أسئلة موضوعية ومشروعة عن جدة التجربة الانتخابية بالمملكة إلى أسئلة لا يمكن تبرئة ساحتها تماما حيث تسأل عن مدى جدية المملكة في العمل بهذه التجربة.
ولن أنصب نفسي محامية أكثر مما فعلت في الدفاع عن موقف المملكة بهذا الصدد ليس فقط لأن الاستماتة في الدفاع عن الوطن شرف لا يدعى وتهمة لا تدفع ولكن لأنني أفضل أن نستطيع في يوم قريب أو على الأقل غير بعيد تقديم إجابة عملية تؤكد جدية هذه التجربة وعندها فقط نستطيع أن نسخر من سخرية سؤال الجدية. غير أن هناك بعض الأسئلة التي تستحق القراءة فيما يخص خبر صدور اللائحة وفيما يخص بعض بنودها وفيما يخص أيضا جدوى التجربة نفسها وجدتها وهذه بعض الأسئلة التي تطرح اليوم ونحن على أبواب التجربة الأولى للانتخابات البلدية بعد انقطاع تاريخي غير قصير حيث توقفت تلك التجربة التي أحيت من العهد العثماني على يد الملك عبدالعزيز بمنطقة الحجاز بعد عام من الشروع في نقلها إلى العاصمة بالمنطقة الوسطى عام 1963 ومن هذه الأسئلة:
السؤال عن مدى قدرة طبيعة تركيبة المجتمع السعودي والسطوة القبلية التي لا تزال تحكم هذه التركيبة على استيعاب هذه التجربة دون أن تنزعها من إطارها الجمعي التعددي المدني وتصبها في أوعية التفاضل أو التنابذ أو التمايز القبلي ودون أن تتدخل الولاءات القبلية في تحديد توجه الأصوات. وسؤال هل طبيعة التركيبة السياسية القائمة في المجتمع السعودي تتسع لهذا النوع من المشاركة الشعبية دون أن تضويها بحكم العادة تحت جناحها فتصبح امتدادا لها لا تنويع في تشكيلها؟ هل هي تجربة تأتي بناءً على خيار داخلي واستجابة لمتطلبات الواقع الاجتماعي أو أنها تأتي استجابة لضغوط ظرف طارئ، ومن الملاحظ أن معظم تلك الأسئلة هي أسئلة سوسيولوجية تكمن أهميتها في طرحها أكثر من أهمية الإجابة عليها. فطرحها بحد ذاته يصبح بمثابة صفارة إنذار لبعض محاذير التجربة التي يجب تجنب الوقوع فيها. ومن ذلك أن على الناخب ألا يخضع في خياره الانتخابي لولاءات المحسوبية كالولاء القبلي أو ما حذا حذوه من الانتماءات الأضيق بل يحدد إرادته الانتخابية بحرية في رحاب الانتماء الاجتماعي والوطني الأرحب وفي ضوء مدى خدمة البرامج العملية للمرشح لمصالح الدائرة التي يترشح لتمثيلها. أما النوع الآخر من الأسئلة المطروحة بصدد جدة تجربة الانتخابات فيتمثل في تلك الأسئلة التي تسأل عن سقف هذه التجربة وأبعادها وآلياتها وأهدافها القريبة والبعيدة ومدى فائدتها للمواطنين نساءً ورجالاً والكيفية التي يمكن أن تحسن بها أوضاعهم. بل إن بعضها يسأل عن كيفية الترشيح والانتخاب وضوابطه. كما تسأل لمن هذه التجربة وبمن وهل هي حق لجميع المواطنين والمواطنات أو أنها حجر على أحدهما دون الآخر. وكذلك تسأل عن علاقة هذه التجربة الانتخابية بالسياق الاجتماعي والسياسي العام للمجتمع والدولة وعلاقتهما مع بعضها البعض. وإذا كانت بنود اللائحة تجيب على بعض تلك الأسئلة مثل المادة الثالثة التي تحدد مواصفات الناخب وشروط الترشح كما جاء في المادة الحادية عشرة في الفصل الخامس وآلية الاقتراع ومواعيده وضوابط الحملات الدعائية لبرامج المرشحين فإنه قد بقي عدد من الأسئلة معلقاً مما نرجو أن يجيب عليه الانخراط المجتمعي العام نساءً ورجالاً في تعلم هذه التجربة وفي تعميمها وفي جني ثمارها مشاركة وطنية ترفع عن المجتمع العربي تلك الأمية الديموقراطية التي طالما عانى الحرمان من هوائها الطلق. وأخيراً وليس آخرا لأنه لا بد من عودة أخرى لهذا الموضوع فهو يستحق أكثر من وقفة واحدة لا بد أن نذكر أنفسنا ونحن نمارس لأول مرة في عدة أجيال منا دور الناخبين والمرشحين بمسؤوليتنا في إنجاح هذه التجربة. كما لا بد من تذكر أن انتخابات المجالس البلدية هي خطوة أولى على طريق المشاركة الوطنية وتطوير مؤسسات المجتمع المدني بحيث يصبح من واجب وحق المواطن والمواطنة المشاركة في إدارة الشأن العام في مناخ من الضمانات النظامية لرقابة الأجهزة التنفيذية والأداء المالي للبلدية في قيامها بمهام وظائفها المختلفة من حماية البيئة من التلوث إلى التأكد من توفير طرق مواصلات آمنة ومعبدة تشير إلى أننا دولة تتمتع ببعض امتيازات امتلاك واحد من أكبر احتياطي البترول في العالم، المساواة في خدمات الأحياء، تفعيل الحياة الثقافية والرياضية في الأحياء وهذا غيض من فيض مما يجعل من مسؤوليتنا جميعا أن لا نتردد ولا نحجم عن الانخراط في التجربة كناخبين أو مرشحين. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|