في أحد الحوارات التي أجريت معه قال الكاتب الأمريكي أرنست هامنجوي إنه يبلي سبعة أقلام رصاص في اليوم الواحد. عندما قرأت هذا الكلام ظننت في البداية أن في الأمر شيئاً من المبالغة حتى قرأت لكتاب آخرين يتفقون معه في هذا، فالكتابة مدة ثماني ساعات يومياً تتطلب مثل هذه الكمية من الأقلام، بعد أن هدأت دهشتي من كثرة الأقلام تذكرت أن المسألة ليست في كثرة الأقلام بل في عدد ساعات العمل. يعمل الكاتب الكولومبي غارسيا ماركيز في اليوم سبع ساعات بدون توقف لا ينتج خلال هذه الساعات سوى صفحة واحدة فقط.
أي أنه يكتب ثم يمسح، يكتب ثم يعدل، يكتب ثم يشطب حتى يصل إلى صفحة نقية لا تحتاج إلى مراجعة بعد ذلك. عندما أقلب الأمر في دماغي أسأل: من يستطيع أن يحدد قيمة ماركيز أو هامنجوي هل تكمن في العبقرية أم في الجهد المبذول. تصور أنك تعمل على تأليف كتاب من أربعمائة صفحة مدة ثلاث سنوات، ستة أيام في الأسبوع، سبع ساعات يومياً دون كلل أو ملل مهما تدنت قدراتك الإبداعية لابد أن تنتج شيئاً ذا قيمة فالإخلاص للمهنة هو الجزء الأساسي من العبقرية لأنه هو الوسيلة الوحيدة لتعرف هل أنت عبقري أم لا، إلى درجة أني أميل بشكل قوي إلى القول إن العبقرية هي الجهد المبذول، كل المذكرات التي قرأتها لمشاهير أسهموا في حركة الإنسان تدعم هذا الظن.
كثير منا لا يرى من المجد إلا السطوع الذي ينبعث منه، لا يرى إلا الجزء الجميل المتظاهر على سطحه لا يرى ذلك الجزء التحتاني المرهق والشاق.
بعد أن حصلت الممثلة الأمريكية جودي فوستر على جائزة الأوسكر قالت إن الناس لا ترى من حياة الفنانين سوى الرفاهية والمال والشهرة، لا يرون التعب والإرهاق والحرمان والضغوط.
عندما كنت محرراً في مجلة اليمامة كان يتصل بي بعض المعارف والأصدقاء يرغبون في كتابة زاوية في المجلة، رغم أني لم أكن المسؤول الذي يتخذ قراراً في هذا الأمر إلا أني لم أكن أرفض طلبهم أو أحيلهم إلى رئيس التحرير وإنما أطلب منهم أن يبعثوا لي بأربعة أو خمسة مقالات وما يكون إلا خير. وبعدها لا أسمع منهم أي شيء، كنت أعرف أنهم لن يبعثوا بأي شيء، أحس كثيراً أن بعض الناس لا يميز بين جهد الاستهلاك وجهد الإنتاج، عندما يقرأ مقالاً في سبع دقائق يظن أنه كتب في نفس المدة، عندما يقرأ مقالاً سهلاً يظن أن هذه السهولة جاءت من بساطة الكتابة نفسها، لا يعرف أن ما يصله هو المنتج النهائي بعد أن مر بكثير من الإجراءات والعمل. في إحدى الدورات التدريبية في إنجلترا قال المدرب لتلاميذه من طلاب الكتابة الإبداعية: إن صناعة كاتب تحتاج إلى سبع سنوات تدريب فقال أحد المتدربين: في هذه المدة نستطيع أن نخرج طبيباً، فقال المدرب ومن قال لك إن مهنة الكتاب أقل تطلباً من مهنة الطب؟
أتذكر قرأت كتاباً يبحث أحد فصوله هذه النقطة وقد أجرى مؤلفه عدة بحوث واستفتاءات تصل جميعها إلى أن الموهبة ليست سوى كلمة خالية من المعنى. كلمة ميتافيزيقية تؤدي في كثير من الأحيان إلى مشاكل أكثر مما تقدم حلولاً، لأنها تستبعد في دلالاتها أي شيء يتصل بالعمل والجهد. كأنما البشر يقسمون إلى قسمين: قسم العباقرة وهم الأقلية وقسم العاطلين من المواهب وهم الأكثرية. لم نسمع أن إنساناً صار عظيماً بدون شقاء إلا الموسيقي موزارت ولكن الشيء الذي يهيل قسطاً من الغموض على هذه القضية ويعطي كلمة موهبة قيمة مستمرة هو لماذا يعطي الله ناساً طاقة عمل ويحرمها من ناس آخرين؟ أليس ذلك هو قلق الموهبة المتوفرة أصلاً في داخل الإنسان؟
YARA4U2@HOTMAIL.COM |