زينب حفني روائية سعودية فجّرت ما لديها في (الرقص على الدّفوف)، (هناك أشياء تغيب)، (نساء عند خط الاستواء)، و(لم أعُد أبكي).
قرأت لها الأخيرة (لم أعُد أبكي) وهيأتني لعدم البكاء رغم ضغوط الحياة، التضحيات، التنازلات، القهر، ضياع الأماني، وأد الرغبات، سلب الحقوق، التشكيك في القدرات، الوصاية، تقنين المطالب، حصر الواجبات.. ورغم كلّ ما لا أستطيع تذكره الآن, ونعاني منه ونئن، ويعاني منه كثيرون غيري.
هيأتنا لعدم البكاء ما إن كتبت في الصفحة الأولى (إلى نفسي.. لأثبت حقها في البقاء)؛ لأن البعض وربّما الغالبية من البشر لم يدركوا بعدُ معنى حقنا في البقاء، وكيف نصبر ونكافح ونجاهد ونناضل لنثبت ذلك الحق، وإن ابتسم أحدكم الآن ابتسامةَ استهزاءِ فحواها: (وهل لكنّ حق في البقاء؟).
نعم لنا حقنا في البقاء.. ولي حقي في البقاء على الأقل حتى أحبّر ما لديّ من رواية مقهورة أو روايات بداخلي تترقب الإفراج عنها بعد طول صبر ونفاد.. وبعد تجربة متأصّلة ومتجذرة في الحياة.
عليّ أن أبقى على ألا أبكي كي لا تتساقط الدموع على ورق لم يجفّ حبره؛ فتضيع معالم الحروف والكلمات والجمل والأسطر ثم تتلاشى الرواية المنتظرة.
(لم أعد أبكي) زينب حفني أول فصولها (طفولة مخدوشة) ولنا أن نتصوّر خدشاً وقع على زجاج نظارة طبية.. هل سيمكّن الخدش صاحب النظارة من الرؤية بصورة سليمة؟!
سيرى كلّ ما أمامه مخدوشاً.. الطريق، صفحة الكتاب وهو يقرأ فيه، شاشة التلفاز وهو يتابع برنامجه المفضل، شاشة الحاسب الآلي حين تصفحه النت، ربما صغاره سيراهم مخدوشين من خلال نظارته المخدوشة.. إما أن يستغني ببصره المتواضع عن النظارة المخدوشة، وإما أن يستمرّ عليها محتملاً الخدش، والصائب أن يستبدل نظارة أخرى بها مضحياً بمبلغ دفعه ثمناً لنظارته (الكارتير) أو (الكريستيان ديور).. والطفولة المخدوشة لن يزول خدشها إلا بشباب صاف.. حيث رأت الروائية أن (العمر أقصر من أن نهدره في النوم. سيأتي يوم علينا ننام فيه طويلاً) ص 35.
يستعجلون وضع طعام العشاء ليلحقوا بفراش النوم، يتجاوزون إشارة المرور الحمراء بعد نهاية الدوام الرسمي.. تفور دماؤهم ويشتمون عند مواجهتهم سائقاً يسير بحذر، وكأنهم وحدهم الخارجون من الدوام.. لا يأبهون بقطة تهمّ بالعبور تغتالها عجلات السيارة، وتسجل القضية ضدّ مجهول؛ فلا حقَ لصغار القطة المهدرِ دمُها.. نامت نوماً أبديّاً وهم في عرض الشارع يتقاتلون ليصلوا سريعاً طمعاً في هدر العمر في النوم.. فهل فطنوا إلى أن الشارع قد يشهد نومهم الأبديّ..؟!
العمر ثمين فمن يدرك ليقتطعه أو جزءاً منه فيما هو أبقى من النوم المبالغ فيه؟
من يتقاعد يقدم والنوم نصب عينيه كأنما العمل سلبه منه.
تساءلت زينب حفني: (ألهذا الحدّ تسرق فواجعنا نضارة وجوهنا؟) ص39.
وأجيبها بنعم إذا استسلمنا لفواجعنا ومُهد لها طريق العبور في شوارعنا، ودخول منازلنا، وامتلاك غرفنا المشبعة برطوبة دموعنا؛ لأننا أدركنا أن (كل الرجال الشرقيين يتظاهرون بالتحضر، وفي داخلهم يحملون عقدة موروثاتهم الاجتماعية مهما نالوا من شهادات علمية) ص94.
وسلمنا بذلك دون تعليق وحوار يرسوان بنا على شط الأمان على الأقل (لحفظ حقوق المرأة التي تفني زهرة شبابها من أجل أسرتها، وتكافأ بجحود الأبناء وغدر الزوج الذي يستبدل زوجة في عمر بناته بها بعد أن ذهبت سطوة جمالها) ص104.
وأتت حججه بأنه احتملها السنوات الماضية؛ لأجل أبنائه وأنها كانت.. وكانت.. وكانت؛ فيسرد عدة صفات سيئة زوجته منها براء؛ ليحظى بموافقة أسرة الزوجة البديل عليه، والزوجة الأولى حينئذ عليها ألا تبكي!! بل تسعى لإثبات حقها في البقاء، وأن تأخذ بالمثل الدارج (إذا كانت الريح عاتية فطأطئ رأسك حتى تمرّ بسلام) ص 108 وأن تتلمس السعادة بوسائل جديدة مبتكرة وتقنع بأننا (قليلو الحيلة - حتى - في اختيار من نحبّ، وشقائنا بالذين نحبّهم) وتحاول التعامل - فقط - مع الجانب المضيء في الإنسان طالما أنها قلب محبّ (فالقلوب التي تحبّ، صفحة غفرانها مفتوحة على مصراعيها) ص 141.
أما (الحبّ الذي يدور أمداً طويلاً في ساقية الأوجاع، فسيخف بريقه، ويبهت وهجه، وسيغدو معتلاً؛ حتى يحمله صاحبه إلى مثواه الأخير، ويدفنه تحت الثرى)، ووقتها إما أن نمتهن صنعة الدموع وإما أن نكرر: لم نعد نبكي؛ لنعدّ أنفسنا لعدم البكاء، ونجهزها لرواية تنتظر الإفراج عنها دون تكاسُل أو تخاذل.
فاكس: 8435344 - 03
ص. ب 10919 - الدمام 31443
|