هل تكشف المملكة العربية السعودية عن وجهها الآخر بهذه المبادرة؟وماذا تريد أو تهدف من طرح هذه المبادرة الشاملة لقضايا ظلت تراوح مكانها ولا أحد يحاول أن يلامس جذورها الحقيقية على أرض الواقع ليجد لها حلولاً؟وما هي دلالات هذا التحرك الذي ألقى حجراً حرَّك مستنقع الأحداث الدولية، الساكن والآسن، في الوقت ذاته؟
منهج وآليات.. وتقاليد
شأن تقاليدها السياسية الدبلوماسية لم تعلن قيادة المملكة عن نواياها وخططها، وإنما باشرت بصمت إجراءات خطواتها (العملية) لفك العقد.
أجرت - بعد حسابات واقعية دقيقة - اتصالاتها بكل الأطراف المعنية بالعقد الثلاث:
- ملف العراق. - ملف فلسطين. - ملف دارفور السودانية.
وبسبب دقة هذه الحسابات الواقعية اكتفت مبادرة المملكة التي أوضح تفاصيلها سعود الفيصل وزير الخارجية بمخاطبة الجهات المؤثرة - وليس المعنية - بهذه الملفات؛ لأنها وضعت في حسابها عامل الزمن، وهو في كل الأحوال ليس في مصلحة استمرار اشتعال النيران وسفك الدماء في هذه البؤر الملتهبة في الجسد العربي والإسلامي.
لذا لم تخاطب المبادرة السعودية دول الاتحاد الأوروبي، وإنما اكتفت بإرسال مبادرتها بشكل مباشر إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والحكومة العراقية المؤقتة، والإدارة الأمريكية، ثم عقدت جلسات مشاورات مع الحكومة السودانية بشأن ملف دارفور الأمني والسياسي، ثم مع الأمين العام لجامعة الدول العربية الذي عقد جلسة مباحثات مع الأمير سعود الفيصل قبل أن يطرح الأخير مبادرته في مؤتمر صحفي عام.وكما تلاحظ فإننا، وإلى الآن، لا نتحدث سوى عن منهج وآليات العمل السياسي الدبلوماسي، إلا أننا لم نتحدث عن المبادرة نفسها وجدواها.
مرارات حروب الخليج
قد يطرأ على ذهن المراقب للأحداث سؤال: لماذا لم تخاطب المبادرة الاتحاد الأوروبي مباشرة وهو يتمتع بثقل ما قد تختلف تقديراته بين جهة وأخرى؟أما الإجابة - ببساطة- فتتلخص في أن أوروبا ما زالت خياراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية رهن الإدارة الأمريكية.
نعم، قد تختلف وجهات نظرهما حول بعض النقاط، بهذه الدرجة أو تلك، ولكن يظل القرار الأمريكي ملزماً للجميع، وافق مَن وافق، واختلف مَن اختلف.
والخلاف حول مشكلة الشرق الأوسط، والاختلاف حول سياسات حكومة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة خير شاهد على ذلك، دعْ عنك الخلاف حول السياسات الأمريكية في معالجة ملفَّي الحرب على الإرهاب والعراق.
وتنجلي عبقرية مهندسي المبادرة في أنها اقترحت إرسال قوات من الدول الإسلامية (غير المجاورة للعراق)، ويفهم مباشرة أن بين هذه الدول وبين العراق طوال سنوات تسلُّط صدام حسين الكثير من الحساسيات والتعقيدات السياسية والأمنية والأيديولوجية؛ مما لا يضمن التفاف مختلف ألوان الطيف السياسي والعرقي في العراق حول مشاركة جميع دول الجوار، الأمر الذي يزيد ويفاقم من الاختلافات بين العراقيين أنفسهم، في حين أننا يجب أن نبحث عما يوحِّدهم؛
فقد راكمت العداوة بين الحزبيين البعثيين في العراق وسوريا.. وراكمت حروب الخليج الثلاث بين العراق وبقية جيرانه مرارات كثيرة ما زالت صدور البعض تغلي من طعمها الحارق.
شكوك في غير محلها
النقطة الفاصلة في هذه المبادرة أنها وضعت مهمة واضحة لا تحتمل اللبس للقوات الإسلامية في العراق الشقيق، وهي أن تكون (بديلاً) لقوات التحالف الحالية، وليس إضافة لها.
وكان لا بد من وضع النقاط على حروف هذه الجزئية من المبادرة؛ لأن البعض في غمرة التساؤلات والاجتهادات التحليلية توصلوا بقدرة قادر - ومن منطلقات شتَّى - إلى أن أمريكا وإدارتها التي تبحث عن مخرج، مع اقتراب الانتخابات، من الورطة العراقية هي التي هندست المبادرة واختارت السعودية لطرحها علناً.
صحيح أن الإدارة الأمريكية تريد مخرجاً مشرفاً من هذه الورطة، إلا أن بوش ومنافسه في هذا (المزاد) كانا لا يتصوران مخرجاً سوى عن طريق المنظمة الدولية التي تجاهلاها وهمشاها -كأمريكان- عند إشعال فتيل الحرب.
لم تكن المنظمة في حسابات الإدارة الأمريكية قبل وبعد الحرب، وبالتالي فإن منظمة المؤتمر الإسلامي لم تكن بالشيء الوارد أصلاً لأن توضع في الحساب، هذا إذا سلمت من نظرة العداء، باعتبارها تجمعاً إرهابياً، طالما أصبح (الإسلام) هو العنوان الرئيسي للإرهاب.
ثم كيف تسعى إدارة بوش والمؤلفة من الشارونيين الصهاينة لأن تتبرع للمملكة بمبادرة موضوعية يمكن أن تضع أسساً واقعية لحل أكثر المشاكل تعقيداً اليوم، وهي التي تسعد ليل نهار لإثبات أن المملكة هي بؤرة الإرهاب العالمي، بل ويقترح بعضهم قصف بيت الله نووياً؟!
أكاد أحياناً أزعم جاداً أننا نبخس أنفسنا قدرها.. ولا تسألني لماذا؟
لماذا هذا الشك في عدم قدرتنا على رؤية أعقد مشاكلنا من منظور واقعي ومتوازن، وتشخيص دائنا، وطرح الحلول بشجاعة؟ألم يفعلها من قبل ولي العهد السعودي باسم المملكة في قمة بيروت، التي كتبتُ حينها لو أن الدول العربية تعاملت معها - مع مبادرته - بجدية لحصرنا أمريكا وإسرائيل في زاوية ضيقة، خاصة وقد أوصت دول الاتحاد الأوروبي وفرنسا المشاكسة بضرورة تبنيها وطرحها عربياً على المستوى الدولي؛ لأنها كانت واقعية وموضوعية وستحرج بصفتيها هاتين المحورَ (الأمريكائيلي)؟!
المعيار الصحيح للتقييم
والآن نحن أمام مبادرة أخرى، ولكن هذه المرة طبخت على نار الدبلوماسية السعودية الهادئة. ولكنها لم تترك هامشاً لمتخرِّص أو مجتهد يتخبط بين الافتراضات؛ إذ أوضحت بجلاء أن هناك أربعة متطلبات قبل البدء بأي إجراءات، أولها: أن تقدم الحكومة العراقية طلباً واضحاً بذلك، وأن يكون الطلب مشتملاً بشكل واضح وكافٍ على موافقة الشعب العراقي بكل فئاته على المقترح، حتى لا يكون موضوع مزايدة، ويكون معبِّراً عن إرادة الشعب العراقي.
ثانياً: أن تكون القوات الإسلامية (بديلاً) كما أسلفنا لقوات التحالف، وليس مجرد إضافة لها، حتى لا تؤول المبادرة باعتبارها دعماً للاحتلال وشرعنة له.
ثالثاً: أن تتولى الأمم المتحدة مسؤولية العملية السياسية بالعراق، بما في ذلك إجراء انتخابات ديمقراطية لتشكيل حكومة جديدة؛ حتى لا تتدخل الدول الإسلامية في الخط السياسي وتفرض عليهم وضعاً، وهم الذين يتشكل طيفهم السياسي من العديد من الألوان الثقافية والعرقية.
ولو حاولنا أن نرصد ردود الفعل حتى الآن سنلاحظ أشياء تدعو للتساؤل:
1- مثلاً: بوش وكيري أعلنا -رغم التناقض بينهما في أسلوب التعامل مع الملف العراقي- عن تأييدهما للمبادرة السعودية، بل إن كيري صرح بأن هذه الخطوة تأخرت عامين.
2- في حين قالت مصر: إنها ما زالت تدرس المبادرة.
3- الجامعة العربية على لسان عمرو موسى أمينها العام وصفت المبادرة بالفاعلة، وأنها تعمل على تحقيق الأمن للشعب العراقي.
4- أما إيران فقالت: إن المبادرة غير مناسبة، بلغة أخرى لم تعجبها، ولها في ذلك حساباتها هي السياسية الخاصة، ولها مبرراتها، ربما العقائدية الخاصة.وأعتقد جازماً أن الرفض الإيراني للمبادرة السعودية يؤكد مدى موضوعية وحيادية هذه المبادرة.
الجدوى.. والنوايا
وهنا نأتي للحديث عن النوايا، وهي آخر ما يجب أن نتحدث عنه. لماذا؟
لأن السياسة - شأنها شأن أي أمر آخر- هي عمليات منتجات ومخرجات كما نقول بلغة علم الإدارة.
أمامنا مبادرة سياسية ما كيف نقيس أو نقيم جدواها من لا جدواها؟
بهذا المقياس نفسه، هل تعطينا مخرجات تغطي تكلفة الإنتاج وتحقق تغذية راجعة، مما يسميه الاقتصاديون أرباحاً أو فوائد إنتاج؟
والآن نتساءل سياسياً: هل تستطيع المبادرة السعودية أن تقدم حلاً للمشكل العراقي، الذي لم يكن مشكلاً يخص الإدارة الأمريكية وحدها، بقدر ما بات هماً يؤرق المنطقة، بل والعالم بأسره؟
هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا ونحن نتأمل أو نحاول تقييم هذه المبادرة.
عندها سنجد أن هذه المبادرة طُرحت بشكل متكامل، ويبدو هذا واضحاً من ردود الأفعال، ومن الآليات الدبلوماسية التي طرحت بها؛ إذ إنها لم تُغفل طرفاً كان ينبغي أن يُشرك فيها، وتركت الباب مفتوحاً أمام الجميع، وأمام كل الخيارات، لتظل قائمة في وجه الجميع.
كما أنها لم تستند في أساسها إلى الشعارات السياسية والمزايدات، وإنما إلى رؤية واقعية وموضوعية.
إلا أن السؤال التحدي الذي سيظل مسلَّطاً مثل السيف في وجه القوى والفعاليات العربية والإسلامية هو: ما مدى الجدية التي سيتعامل بها مع هذه المبادرة؟!
هنا مربط الفرس كما تقول العرب..
أبنفس الكيفية التي تعاملوا بها مع مبادرة الأمير عبدالله ولي العهد السعودي في قمة بيروت ليضيعوا فرصة تاريخية أخرى.. وتاريخنا العربي والإسلامي حافلة سجلاته بالفرص الضائعة؟!
أم بجدية كما طالب سعود الفيصل في مؤتمره؟!
محاولات التشويش.. لماذا؟
لو كانت هذه هي المشكلة الوحيدة لهان الأمر (فكله عند العرب صابون)، إلا أن بعض الأصوات التي ارتفعت بعد المبادرة مطالبة بأن تكون قوات (درع الجزيرة) ضمن هذه القوة الإسلامية المقترحة في المبادرة السعودية لا يؤشر إلى عدم الجدية في التعامل بموضوعية معها، بل ويؤكد أن البعض يسعى بجدية لإجهاضها والتشويش عليها، لأسباب لم تعد مجهولة لأحد في العالمين العربي والإسلامي. وإن كانت هذه الأسباب معلومة بالتفصيل لهذا البعض، ولمن يدفعهم (يدزهم)، فإن التاريخ سيكشف غداً التفاصيل.
وغداً لناظره قريب. والله المستعان
(*) أكاديمي وكاتب سعودي
|