1-1 الدهماء من الناس من يظن أن المحتفى به لا يستوفي متطلبات التكريم حتى يكون الأول في كل شيء. وفي ظل تلك الرؤى حُجبت المعرفة، وأفل العلم، وحل محلهما الثناء والمجاملات.
وليس ذلك وليد الساعة، وإنما هو خليقة عرفها الباحثون عن الحق. وما على المتردد إلا أن ينقب في (كتب المناقب) و (سير أعلام النبلاء) ، و (تاريخ الرجال) ، ليرى ما لا يمكن توقعه من مبالغات قد تُخرّف القضايا وتؤسطر الرجال. ولما كنت ممن يُدعى إذا حيس الحيس وإذا تكون كريهة للحديث عن الرواد المكرمين أو المؤبنين، فقد روضت نفسي على مواجهة المواقف بأسلوب وسطي، يحفظ التوازن بين (الحق) و (الحقيقة) ف (حق) المحتفى به أن نلتمس أحسن ما عنده. و (الحقيقة) ألا نقول عنه إلا الحق. وإذ يود المحتفون بالأديب (ابن ادريس) تسليط الضوء على جوانب متعددة من منجزاته، فقد وكل إليّ تناول حظه من النقد. و (النقد) مصطلح يقتضي الجمع والمنع، ولا يؤتاه إلا من كان متوفراً على مقتضياته: المعرفية والمنهجية. والقول عن نصيبه منه، يستدعي استعراض ما أنجز من أعمال نقدية، وتمريرها على أدنى حد من المقتضيات، فإن توفر عليها، كان ناقداً فاضلاً، وإن كان على شيء منها كان ناقداً مفضولاً. ولأن المتحدث عن الشخصيات والظواهر والقضايا يُري نفسه الآخرين، مبدياً من خلال حديثه مبلغه من العلم، ونصيبه من المصداقية فإنني سآوي إلى وثائق تعصمني من التجهيل أو التكذيب، وتنجيني من مغبة المجاملة أو معرة التحامل، إذ لو تصورت النقد على غير ما هو عليه لكنت جاهلاً في نظر العالمين، ولو قلت عن المحتفى به غير الحق لكنت كاذباً في نظر العارفين، وفي الحالين لا أفيد المحتفى به شيئاً، ولا أحفظ ماء الوجه.
والاستاذ عبدالله بن عبدالعزيز بن ادريس خلَّف وراء ظهره فيوضاً من القول الأدبي المعهود في الأذهان، والمطبوع في الكتب، ولا أحد منا يملك إنكار شيء منها، ولا إضافة صفة لا يحتملها شيء منها، وليس بيد أحدنا أن يحمل تاريخ الرجال ما يريد، ولا أن ينزع منه ما لا يريد، فلقد رفعت الأقلام، وجفت الصحف، وإن كان ابن ادريس حاضراً بيننا، يقول، ويفعل، ويملي فصول حياته الأخيرة التي نرجو له فيها إنْساءَ الأجل، ومزيد العمل، فإنه وبعد هذا العمر الحافل بالأداء قد استقر في الأذهان منذ بوادره الأولى: شاعراً جزل العبارة، وناقداً حاد النبرة. ولمَّا تكنْ صلتي به طوال هذه المدة مقطوعة ولا ممنوعة. فلقد عرفته وأنا طالب يبهرني كل شيء، كان يومها في نظر لداتي الشاعرَ الذي لا يطاول، والأديب الذي لا ينازع، والصحفي الذي لا يبارى، والناقد الذي لا يجارى. ونمت معارفي، واتسعت مداركي، واقتربت منه: ذاتاً ومضموناً، وشبت رؤيتي عن الطوق، وتنوعت اهتماماتي، وتعددت قراءاتي، فكان واحداً من عشرات الكتّاب والشعراء والنقاد الذين يؤخذ من قولهم ويترك، وتخطى بي الزمن لأكون الصديق والزميل، وتوثقت الصلات، وتعددت اللقاءات، وتجاوزنا معاً مرحلة المجاملات، وما عاد أحد منا ينتظر من صاحبه إلا قول الحق، وفوق كل ذي علم عليم. ولأنه شاعر وأديب من بلادي، فقد كان قدرنا معاً أن يكون مادة بحث ودراسة، فاهتمامي بالأدب السعودي فرضه علي موضوعاً. تناولته شاعراً في رسالتي للماجستير وللدكتوراه، وتناولته ناقداً فيما كتبت من مداخل لدراسة الأدب السعودي. ومَوْضعة الذات تغيب العلاقات والمجاملات، بحيث يصبحُ الإنسان شيئاً من الأشياء، يقول عنه الدارسُ ما يقوله عمن سبقه من شعراء أو كتاب، لم يرهم من قبل، وإنما نفذت إليه أقوالهم وما قيل عنهم، مما حفظه التاريخ، فشعراء الجاهلية والإسلام، والمعاصرون من مبدعين ونقاد، أصبحوا خبرا بعد عين، ومواضيع يختصم حولها من بعدهم.
وابن ادريس الذي ترك السرى خلفه، وخلا بأعز جليس، تحوّل منجزه الكلامي إلى موضوع، يملك كل قارئ حق التعبير عما يراه إزاء ما يملك من وثائق. وهنا وفي ظل هذه الحيثيات والمسوغات، عدت قارئاً جديداً لما سبق أن قرأتُ عنه وله، ولما سبق أن كتبتُه عنه في غيابه. وليس من السهل في هذا الموقف أن أبذل القول غير القول، ولا أن أملك حرية القول في لحظة احتفاء واحتفال. والرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: (إن من البيان لسحرا) إنما استدعاه لهذا القول متحدث عن (الزبرقان) - فيما أعلم - رضي المتحدث عنه فذكر أحسن ما يعلم، وفي ذات الموقف سخط عليه فذكر أسوأ ما يعلم، ومع ذلك أقسم أنه صدق في الأولى، ولم يكذب في الثانية. والمتحدث ذو أحوال ثلاثة: - إما أن يكون راضياً أو ساخطاً أو طالباً للحق، لا يدفعه رضا ولا يثنيه سخط. وكل حالة توجه المسار. ومع كل هذا فإن القول عن أي ظاهرة محكوم بانتماء المتحدث فكرياً وبرؤيته فنياً وبإمكانياته معرفياً. ومن ثم فليس هناك قول فصل، ولو آمنا بالحدِّية لكنا قد فرغنا من شعرائنا وكتابنا منذ أمد طويل. والحديث عن ابن ادريس في جانب من اهتماماته الأدبية يحفزنا إلى استكناه ذلك الجانب مفصولاً منه، حتى إذا تصورناه نظرنا إلى مبلغه فيه. و (النقد) له سياقه المحلي والعربي، وله مذاهبه وتياراته وآلياته وتحولاته، وللنقد المحلي ريادته وتأسيسه وانطلاقه، وله رواده ومؤسسوه، ولكل ناقد مرجعيته واهتماماته، وابن ادريس في هذه المعمعة واحد من الدارسين والمؤرخين، وما من متعامل مع الحركة النقدية في المملكة إلا ويعرض له متفقاً أو مختلفاً معه، ويكفي أن يكون جزءاً من التاريخ الأدبي، والحديث عن النقاد يقود إلى الحديث عن النقد، وهو مصطلح قائم بذاته تتنازعه ثنائية: التطبيق والتنظير، وتتجاذبه الآليات والمناهج والمذاهب، ويختلف المؤرخون والمنظرون للنقد حول من يدخل فيه. ومن لا يدخل، فمتى يكون الكاتب ناقداً أو مفكراً أو فيلسوفاً أو مثقفاً أو مبدعاً، ومتى لا يكون؟ ومتى يستحق الجمع بين سمتين؟ وابن ادريس أبدع الشعر، وكتب النقد، ونازع في امتلاك السمتين، ولكنه لم يفرغ لواحدة منهما، وأخشى أن يكون قد سوِّد قبل أن يتفقه، ومع ذلك فقد أخرج للناس كتباً في الإبداع وأخرى في النقد، وحفز الدارسين والنقاد لقراءة شعره وتحديد مذهبه النقدي، ومهمتنا أن نعرف مبلغة مما نحن بصدد الحديث عنه وهو (النقد) .
2-1 والسؤال الملح:
يحدونا إلى التساؤل عن مكانته في سلم النقد وأنواعه، فهل عبدالله بن ادريس (ناقدٌ) أو (مؤرخ أدبي) ؟. وحين نسلم بإحدى السمتين أو بكلتيهما، فأي السمتين الصق به:
النقد الأدبي بقسميه: التنظيري والتطبيقي.
أو التاريخ الأدبي بقسميه: الرصدي والوظيفي؟
وهل المؤرخ الأدبي يعد ناقداً؟ وهل مَن كتب في موضوعات الإبداع القولي، يعد ناقداً؟ وهل الانطباعية والذوقية منهجان من مناهج النقد؟ إننا أحوج ما نكون إلى تحرير (مفهوم النقد) ، وتحديد مستوياته وأنواعه قبل وضع الشخصية المدروسة في موضعها الطبعي.
وأعيذها نظرات صائبة من المتلقي ان يحسبني أفتعل دوامة كلامية، وأثير غبار الاحتمالات، لأتسلل لواذاً كاتماً ما أرى، كمؤمن آل فرعون، ذلك أن الأمر لا يحتمل مثل هذه التحفظات، فمن جعل ابن ادريس ناقداً وجد ما يعزز به رأيه، ومن قصره على التاريخ الأدبي أو الانطباعية أو الذوقية وجد ما يدفع به غوائل المؤاخذة. ولا استبعد أن تكون مَوْضعةُ ابن ادريس إشكالية، فالنقاد الأكاديميون لا يتفسحون لغيرهم في مجالس النقد، لتعويلهم على المنهج الصارم والخطة الدقيقة، والنقاد المتضلعون من فيوض النقد الغربي الحديث وتحولاته يرون النقد علماً ومعياراً، والنقاد الشعراء ومنهم ابن ادريس يعدون أنفسهم أبناء بجدة النقد، يوم كان الزمان زمان الشعر، ولما يزل في كؤوس الجدل بقية، وقد نخرج من جدلنا هذا بإضافة إشكاليات جديدة. لقد عرفت ابن ادريس منذ خمسين سنة يوم كنت طالباً في الصفوف التمهيدية، كان ذلك عام 1374ه، وكان يومها مفتشاً ملء السمع والبصر. وقرأت له منذ أربعين سنة، حين أخرج للناس كتابه (شعراء نجد المعاصرون) وأحدث به ردود فعل واسعة، وقدم به مرجعية تهافت عليها عدد من الدارسين. وتناولته ناقداً وشاعراً منذ ثلاثين عاماً، حين باشرت في إعداد رسالتي للماجستير، وعدت اليه قبل خمسة وعشرين عاماً حين درسته في رسالتي للدكتواره، ولما يزل يتقلب بين يدي موضوعاً في قاعات التدريس، وصالات المناقشة، ومنابر المنتديات، أكتبه موضوعاً لدراسة أعدها، وأقرؤه موضوعاً لرسالة أناقشها. يرفعه قوم، ويضعه آخرون، ويتفق معه ناقد، ويختلف معه آخر. وما من أحد نفى شاعريته، ولا أنكر منجزه النقدي، وإنما الاختلاف حول قيمة هذا المنجز، وتصنيفه، وتوصيفه وموقعه في سياقه. وإذ نكاد نتفق على انه شاعر وناقد، يظل الخلاف محصوراً في مبلغه من الشعر والنقد، والمريح إنه لم يظفر أحدٌ من الناس بالإجماع على مبلغه في أمر من أمور الأدب والفكر، فالنقاد قد يتفقون على السمة، ولكنهم يختلفون على مبلغ الانسان منها، فهذا (المتنبي) ، مالئ الدنيا وشاغلُ الناس، النائم عن شوارد شعره، والمسهر للخلق، وخالق الخصومات منذ ألف عام أو تزيد، يختلف الناس حوله، وكلما تعمقت الخلافات عظمت الشخصية، وتكرس حضورها، والناس لا يختلفون إلا حول المتميزين، فهاكم (أبا العتاهية) يمر به القراء مر الكرام مسلمين بشاعريته، فيما يطيلون الوقوف حول (المتنبي) ثم لا يسلمون بشاعريته، وبين الاثنين مثلما بين الثرى والثريا. وقد قيل: أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري.
3-1 ولسنا بهذه الاستهلالات نريد النفاذ من هذا المأزق، ولا نريد خلط الأوراق، وإنما نود أن نثبت أفئدة المتلقين، حين لا نتفق مع ابن ادريس أو حين لا نسلم بما سلم به غيرنا، على أننا جميعاً لا نقول إلا معاراً أو معاداً من أحاديث مكررة. والحديث عن الناقد يقود إلى إشكاليات النقد ومفاهيمه المتعددة، والناس بعد تحولات النقد وحدوث متغيرات في الآلية والمنهج والمقاصد غيروا من مفاهيمهم، واضطروا إلى إعادة ترتيب أوراقهم، وأبعد بعضهم النجعة، حتى لكأنك مع بعضهم في ملاعب جنة، لو سار فيها سليمان لسار بترجمان.
ذلك أن النقد اليوم غيره بالأمس، ولما يعد الوقت وقت مسلمات ونمطيات، والتسليم بكل التحولات يجعل من الأكثرية كتبة في الادب ليس غير، والخلطة النقدية مع الغرب غيرت المفاهيم والاهتمامات، وقلبت الأوضاع رأساً على عقب، ومذاهب النقد الحديث وظواهره كادت تطمس معالم النقد العربي القديم. والمنظرون للنقد الحديث نفوا من مدينة النقد من كنا نعدهم من رواد النقد وعمده، والدراسة المنصفة لأي شخصية من تأخذه في سياقه وإمكانيات مرحلته، ومن الخطيئة التخطي بمعطيات المرحلة وتقويمها على ضوء الإمكانيات القائمة. وحين لا نسلم بالتخطي والابتسار نسلم بما يعتري الحركة النقدية من تحول مستمر، ولكل زمان نقده ونقاده، ومن يعش منا فسيرى اختلافاً كثيراً، والمؤصل من يستوعب التراث والمعاصرة، ويؤاخي بين القديم والجديد، ويختط لنفسه طريقاً قاصداً، لا يفصله عن تراثه، ولا يحرمه من مستجدات العصر، وتلك معادلة صعبة ومعقدة، وليس لها ضابط متفق عليه، ولكن الحق أبلج، ولا مجال للتَّغنُّص، وعلى طلاب الحق ألا يستزلهم المستغربون، وألا تثبطهم عقدة الأبوية، والرحيل إلى التاريخ، والمتمكن من لا يستسيغ إلا ما افترس من رؤى وتصورات، فانتظار النوال، والاهتياج الأعزل في وجه كل جديد مضيعة للجهد والوقت، والتولي عند مواجهة الآخر تخلية لثغور الحضارة، ومن الخير للأمة أن يرحب صدرها لكل طرح، ولكن في إطار ما يتطلبه الوجود الكريم، وما يحقق الهوية، ويحافظ على الخصوصية.
|