تناول الكثير من الكتَّاب المتخصصين وغير المتخصصين موضوع المناهج، كما عُقدت الندوات والمؤتمرات، بل وأصبح الحديث عن المناهج محل اهتمام وسائل الإعلام وعامة الناس في مجالسهم. وكل هؤلاء ولا شك ينطلق من منطلق الرغبة في معرفة الحقيقة حول المناهج وعلاقتها بالتغيرات المعرفية والنفسية والسلوكية التي يمر بها الأفراد.
وما من شك أن المناهج بمفهومها الشامل المتضمن للبرامج والمقررات الدراسية والأنشطة الصفِّية واللاصفية والبيئة المدرسية وإدارة المدرسة والمعلم ذات علاقة وثيقة بالتغيرات التي يمر بها الأفراد ومن ثَمَّ المجتمعات. وأحسب أن معرفة الحقيقة بشأن المناهج المباشر منها والخفي لا يتحقق إلا بتوفر الموضوعية والابتعاد عن الظن السيِّئ بالآخرين وكيل الاتهامات للمؤسسات والأفراد، كما أن الوصول للحقيقة بشأن المناهج يتطلب توفُّر الأدوات والآلية المناسبة التي تمكِّن الراغب من الوصول للحقيقة بشأن المناهج، وبدون هذه المواصفات والخصائص سيحلُّ التخرُّص والاتهام والاعتماد على المشاعر والعواطف والأحكام المسبقة محلَّ الموضوعية والتجرُّد.
تساءلتُ وأنا أقرأ بعض الكتابات الصحفية التي تناولت المناهج عن خلفية كتَّاب بعض الكتابات، وعن التجارب التي تتوفر لديهم في شأن المناهج في فلسفتها وأهدافها العامة والخاصة وفي محتواها وأسس بنائها وطرائق تقويمها. وتساءلت عن التجارب العالمية في موضوع المناهج التي اطلع عليها هؤلاء الكتَّاب، فألفيتُ أن بعض هؤلاء وكما يبدو في كتاباتهم وفي خلفيتهم ربما لا يتوفر لديهم من مقومات الكتابة حول المناهج والاقتراح بشأنها سوى العاطفة والمشاعر التي استثارها ما يتردد في وسائل الإعلام العالمية والمحلية، أو ربما خبرة وموقف شخصي مرَّ به البعض فأراد أن يعبِّر عن هذه الخبرة -خاصة إن كانت خبرة غير سارة- بأسلوب الشتم والتهجُّم والاتهام للمناهج بكل قبيح ورديء؛ انتقاماً من المناهج وواضعيها والقائمين على إعدادها وتنفيذها. وقد يجد المرء في هذا العمل راحة مؤقتة؛ لأنه عبَّر عن مشاعره واستراح مما يلوك في صدره، لكن مثل هذا الصنيع لا يخدم الكاتب المتجرد من الموضوعية، كما أنه لا يخدم المجتمع على المدى القصير والبعيد.
أما الكاتب فإنه يفقد ثقة الآخرين به وبما يكتب، كما أنه لا يخدم أهدافه بشكل جيد؛ لأنه اختار الأسلوب غير المناسب الذي ينفِّر الآخرين منه طالما أنهم لمسوا في كتاباته التحيز للفكرة على حساب الحقيقة.
لقد لاحظْتُ كما لاحظ الآخرون أن موضوع المناهج أصبح موضوعاً دسماً للتناول والكتابة فيه، بل وربما يظن البعض أنه من السهل الكتابة في موضوع المناهج؛ لأن المناهج أمر مشاع كما يعتقدون ويمكن التعدي عليها والتبسُّط في التعرُّض لها. وَلَكَمْ ساءتني جرأةُ البعض في كَيْل التهم للمناهج، خاصة ما يتعلق منها بتكوين الإنسان في جانبه الإنساني والمشاعري والعاطفي والقيمي والسلوكي، حتى إن التحامل قاد البعض إلى تحميل المناهج وزر ما حصل وما يحصل وما سيحصل في المستقبل، ليس على الصعيد المحلي فحسب بل على صعيد العالم أجمع. ويتناسى المتهمون للذات الاجتماعية الجالدون لها الويلات التي تتعرض لها الأمة في كل أطرافها، بدءاً بأفغانستان واحتلال العراق ووقوفاً عند السودان، فهل من دمَّر أفغانستان، واحتل العراق، ويثير القلاقل في السودان، هل هؤلاء درسوا مادة التوحيد والفقه؟! وهل تخرج مَن يقودون الحروب الصليبية من جامعاتٍ في العالم العربي والإسلامي؟! وهل مَن يشنُّون الحرب على بلد عربي وإسلامي، لأنه قد يُشكِّل خطراً في المستقبل هل هؤلاء نهلوا من الثقافة العربية والإسلامية أم أنهم تربَّوا ونشأوا في أحضان البراجماتية والميكافيلية؟! نشأوا على العنصرية واحتقار الآخر والتعامل معه بدونية تجعل منه طرفاً قاصراً ليس مؤهلاً لامتلاك الحضارة والتقنية، طرفاً يشكل تهديداً لهم حتى وإن كان قابعاً في بلاده ملتهياً في معيشته اليومية، طرفاً حقُّه في الحياة كما يرى أولئك الإقصاء والتهميش والاستمرار في التبعية، والضعف والهوان والحرمان من القوة؛ كي لا يتمرد ويخرج عن الدائرة المحددة له ولأمثاله.
إن الآخر في ظلمه وعدوانيته تخرَّج بالتأكيد من نظام تربوي يصوِّر العربي بالمتوحش وغير المتحضر والجاهل الذي لا يهمه سوى إشباع الشهوات والغرائز. كما أنه يصور مناهجنا على أنها منابع للتطرف والإرهاب وتأجيج كراهية الآخر، في حين يتجاهل ما يقوم به من ممارسات يَنْدَى لها جبين الإنسانية، ويخجل التاريخ من أن يسطِّرها أو يدوِّنها في كتبه. إن تاريخ الآخر مليء بالمظالم، واستعباد الغير واستغلاله، إنساناً ومادة، وما الاستعمار والأسلحة الفتاكة المهلكة للحرث والنسل والمدمرة للبيئة إلا مثال حي على جبروته وطغيانه وعنصريته. فهل يدرك مَن يتهمون مناهجنا من بني جِلْدتنا أن ما يقومون به هو مساندة للظالم على عدوانه وظلمه، ودفاع عن مشروعه الاستعبادي؟! وهل يدرك هؤلاء أن ما يقوم به الآخر هو نتاج طبيعي لنظامه التربوي ومناهجه المباشرة والخفية؛ مناهج الكنيسة والإعلام والمدرسة وقنوات التنشئة الأخرى؟!
إن الانسياق وراء ما يطرحه الآخرون حول ثقافتنا ومناهجنا يشكل خطراً يستدعي التفكير في الأسباب التي تجعل من هؤلاء وسيلة للنيل من الأمة وثوابتها وقيمها الأصيلة، وذلك بالدلوف من باب المناهج. هل يعلم إخواننا الذين نصبوا أنفسهم خبراء في المناهج وتقنياتها أن كل ما يمكن أن يصدر من الفرد من كلمة أو فعل قد يفسَّر على أنه ضمن مفهوم المنهج الخفي؟! فهل نرضى أن يتهم أستاذ اللغة العربية بأنه إرهابي حين يستخدم المثل الشائع والمتكرر في كتب اللغة العربية (ضَرَبَ عَمْرٌو زَيْداً). إن هذا المثال في نظر المتهمين لمناهجنا يحرِّض على العنف والإرهاب، ويغرس في النفس الرغبة في الضرب والاعتداء، ولذا فالمنهج الذي يتضمن هذا المثال منبع للإرهاب يجب تجفيفه، ومُعلِّم اللغة المستخدم لهذا المثل إرهابي متطرِّف يستحق وضعه في قائمة مَن تطاردهم وكالة الاستخبارات الأمريكية والمباحث الفيدارلية. وحسبي بنا جميعاً متخصصين وغير متخصصين ألاَّ نكون معاولَ هدْمٍ لذواتنا نُستخدم من قِبَل الآخر بغفلة منا أو بوعي، تحرِّكنا المكاسب الفردية معنوية كانت أو مادية. إن الثقة بالذات والالتفاف حولها لا يتعارض مع النظرة الموضوعية المتأنية لكافة شؤوننا مهما صغرت أو كبرت وبما في ذلك المناهج، فهل نتحكَّم في ذواتنا ونوجِّه مشاعرنا ونعمل على شؤوننا بعيداً عن إيحاءات الآخر وضغوطه ومزايداته؟!
* عميد كلية التربية بجامعة الملك سعود |