منذ نشأت الخليقة على تقابل الرجل والمرأة امتشجت أواصرهما قسوة ولينا.. ألفة وضجراً.. وعلى مر الدهور لا تزال الحيرة تغلف تلك العلاقة وضوحاً وغموضا.. فظهرت الحكم والأمثال.. الأشعار والقصص.. الأقاويل والأفكار تزيدنا طلسمة حيناً وشفافية حيناً آخر.. ويعد كتاب (الرجال من المريخ، النساء من الزُهرة) (Men Are from mars, Women Are from Venus) لمؤلفه جون جري، الكتاب الأكثر مبيعاً فيما يخص العلاقة بين المرأة والرجل, فقد ترجم إلى أكثر من أربعين لغة وبيع منه ما يزيد عن 15 مليون نسخة.
والمريخ هناك كناية عن الذكورة والموضوعية الجافة، بينما كوكب الزهرة يشير للأنوثة والتفكير العاطفي.. نحن إذا إزاء كوكبين متباعدين ومختلفين أشد الاختلاف، بزعم ذلك الكتاب.
الكتاب يشدد على الفروقات بين المرأة والرجل، محاولاً وضع مفاتيح تساعد المرأة والرجل على فهم الجنس المقابل. وفكرة الاختلاف التي طرحها المؤلف تنبع من طريقة تفكير كل من الجنسين، مثلاً عندما تتذمر المرأة من مشكلة أو تعبر عنها، فإنها تريد فقط الاعتراف والتعاطف والإنصات لشكواها من الجانب الآخر. وعلى النقيض عندما يشكو الرجال من مشاكلهم فإنهم يطلبون حلاً لها. وبناء على ذلك فإن أي اقتراح لحل مشكلة المرأة المشتكية سوف يضايقها، ويشعرها بعدم اهتمام الطرف الآخر لعدم استماعه لشكواها. بينما الاكتفاء بالتعاطف مع مشكلة الرجل دون اقتراح حل سيضايقه لأنه يبحث عن نصيحة وليس عن تعاطف. كذلك عندما تعبر المرأة عن موقفها أو رأيها هي لا تقصده حرفياً كما يفعل الرجل، بل تقصد شيئاً قريباً منه أو مؤشراً له، أي تلميحاً لا تصريحاً.
ورغم تأييد الكثير من الناس والمختصين لمثل هذه الفكرة التقليدية، إلا أن الكتاب أثار جدلاً عالمياً واسعاً, باعتباره ضد المرأة ومنحاز للرجل. وفي تبرير صحة الفروقات هذه يوضح ألن وبراباره بيسي أن الرجل باعتباره أساسا (بيولوجيا) صياد ومدافع عن العائلة لا بد له من التركيز على الهدف للدفاع أو الهجوم، وكنتيجة طبيعية فإن مخ الرجل يتضمن مساحة تحديد الهدف ويطلق عليها (الحيز البصري)، وهي التي تسمح له بالتفكير بالأهداف المصوبة وحل المشاكل. أما المرأة التي هي أساساً لاقطة ثمار ومربية أطفال فإن عقلها مصمم للاتصال والمحادثة، وليس للبحث عن أجوبة أو الحصول على حلول!
أما ليونارد (Leonard Holmes) فله بحث مطول يفند به هذه الادعاءات باعتبارها غير علمية ومجرد أفكار شعبية رائجة. ويؤكد أن الأبحاث من جامعتي برمنجهام وستانفورد على الأفراد المكتئبين أثبتت أن نظرية الرجال من المريخ والنساء من الزهرة باطلة ولا تستند على بيانات بحثية. فالتصورات بأن المرأة المحبطة الباحثة عن عطف الرجل القاسي، هي مجرد تصورات عامة غير مدعومة بالإثباتات العلمية. كما أن الأخصائيين النفسيين لديهم منهج مقولب مسبق يفترض أن النساء المحبطات هن بالغالب متأثرات بالمشاعر والعواطف، بينما الرجال المحبطون هم بالغالب متأثرون بمشاكل العمل أو ضعف إنجازاتهم.
وقد أوضحت دراسة (Journal of Cogenitive Psychotherapy) أن القلق من أن تكون غير محبوب أو فاشل لا علاقة له بالجنس، بل إنه حالة إنسانية لكلا الجنسين. ودعت الدراسة إلى إزالة الجدار الذي بني بين الجنسين من خلال أوهام العامة وقناعات مسبقة غير علمية للمختصين النفسانيين. وإلى كشف الزيف في الكتب الرائجة التي يفضلها العامة لأنها تحاكي قناعاتهم. فقد بينت دراسة (Spangler and Burns) على 427 مُعانٍ من الاكتئاب أنه لا خلاف في الدرجة ولا في الأسباب النفسية بين الرجال والنساء. ويذكر الدكتور بورنز أن خبرته طوال خمسة وعشرين عاماً في عيادة ستانفورد تؤيد هذه النتيجة، فكل من الرجال والنساء ينزعجون من رفض الآخرين لهم أو إنكارهم أو الشعور بالوحدة أو هجران الآخرين لهم بنفس الدرجة. ويذكر بورنز أن هناك تصوراً مقولباً عن المرأة، (وهذا لم أجده طوال عملي فكلاهما يُجرحان من الفشل في العمل أو من الأخطاء بطريقة متشابهة وبنفس النسبة). كذلك وجد الدكتور روبرت ليهي من جامعة كورنل في نيويورك أن كلا الجنسين يتحسنان لنفس الأسباب.
وتقول الدكتورة سبانجلر إن القولبة والمنهج المسبق للأخصائي النفسي يقوده إلى سؤال المريضة في الاتجاه الخطأ مما يصعب من حل أزمتها، وبالمشابه تركيز الأسئلة على الرجل المريض عن وقائع عمله ومهنته ونسيان عواطفه وعلاقاته الشخصية سيقود إلى الاتجاه الخطأ في حل أزمته. وتدلف قائلة: (أنا من الزهرة وأنت من المريخ! هذه رؤية للأشياء بالأبيض والأسود. فهل النساء أكثر عناية والرجال أقل؟ هذا منطق مهين، رغم أني لست رجلاً.) وتقول إن هذه الفكرة العامة المقولبة للأسف منتشرة في المدارس والجامعات رغم أنها بلا سند علمي، لأن المؤلفين النفسانيين يضعون شعبيتهم فوق المسائل العلمية، وأغلب هذه الأفكار يتم الترويج لها بناء على رغبات السوق وليس بناء على بيانات بحثية.
ولكن إذا كانت مثل هذه الأفكار غير دقيقة كيف انتشرت بهذا الحجم؟ تجيب سبانجلر: إنها افتراضات تأتي كيفما اتفق، بناء على تجارب أفراد وحالات خاصة يمكن أن تنطبق على أي حالة أو شخص، تماماً كما يفعل المنجمون في تخرصاتهم، حيث يمكنني مطالعة خريطة الأبراج لكشف الطالع وأجعل من كل واحدة تنطبق علي بصورة أو أخرى. فإذا كان هناك اختلاف هائل بن الجنسين في طريقة التفكير لماذا لا نجدها في البيانات البحثية؟ إن هذه الفكرة الوهمية مريحة لأنها تعطي للناس عذراً كي لا ينفقوا طاقاتهم العاطفية ويستنزفوا وقتهم في محاولة فهم بعضهم البعض. ولكن هذه الأوهام سيكون لها تأثير ضار في فهم العلاقات الشخصية والعائلية. وتشدد الباحثة على عدم جدوى فرز الاختلافات وجمعها في جموعات كذكور وإناث. الاختلافات ليست جنسية بل شخصية. إنه من الجميل الإدراك أن كل شخص لا يفكر مثلك، لكن ليس بسبب أنه رجل أو امرأة بل لأنه إنسان.
أخيراً ومهما كانت الاختلافات، فلا شك أن الرجل والمرأة هما من كوكب الأرض، على الأقل من الناحية الفيزيقية وليست المجازية!!
|