سعادة رئيس تحرير جريدة (الجزيرة) الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كان الخبر المعنون ب(وجد في مشرف سابق بالدار ملاذا له.. هروب يتيم من دار الفتيات بجدة) في الصفحة الأخيرة من (الجزيرة) بتاريخ الخميس 19 جمادى الاخر1425ه، مؤثرا في العبارة أو الحكم الذي ختم به على هذا النحو: (الجدير ذكره أن دار الفتيان للأيتام يقطنها أكثر من100 طفل يتيم أعمارهم تتراوح ما بين 9 - 14 عاما، وهم يحتاجون إلى علاج نفسي مكثف من قبل أخصائيين ذوي خبرة ومعرفة بالأمور النفسية لهم).
إن العبارة تعني تعميم حكم المرض النفسي على الأيتام جميعا، وليس المرض العادي فقط، إنما المتفاقم الذي يحتاج إلى علاج (مكثف) من أطباء مهرة في هذا الداء!
أولا: أليس الموت مصيبة تتفطر لها أكباد الغرباء، وليس أكباد من هم قطعة جسدية ونفسية من الميت؟ أليس الموت الشيء الوحيد - حسب علمي - الذي سماه الله تعالى (مصيبة)؟ فلماذا نضيف مصيبة أخرى للأيتام بأن نلصق فيهم وصف المرض النفسي؟
ثانيا: صياغة الأخبار من الضروري أن تتخذ الصيغة المحايدة، خاصة في مثل هذه الموضوعات الحساسة، فلا تنحو لإصدار الأحكام التي يفهمها القارئ على أنها تعزل شريحة من شرائح المجتمع؛ لخلل خطر فيهم!
ثالثا: سلوك ذلك الطفل اليتيم الصغير سلوك لا غرابة فيه إطلاقا، بل لا يستحق أن يعاقب عليه بأنه (خطأ لظروفه السيئة)؛ فهناك أطفال يهربون من بيوت أبيهم وأمهم وهم أحياء؛ لأسباب منها الضيق، منها المغامرة، منها البحث عن الأفضل... إلخ مما لا نستطيع أن نضعه تحت تصنيفات الأمراض النفسية المستعصية والمحتاجة لخبراء!
إن الخبر نفسه يطرح عذرا لذلك الصغير من تغير الوضع عليه بصحبة أطفال جدد عليه في غرفة واحدة لم يتأقلم معهم، ومن افتقاد المشرف الذي كان يرعاه رعاية أكسبته الاستقرار والطمأنينة، وهذه نعمة من الله تعالى يهبها من يشاء ويحرمها من يشاء، ولو كان عمله الأساسي هو الطب النفسي، أو التهدئة والرحمة، فلن ينجح فيه دون إذنه تعالى بذلك.
وأظننا لو وضعنا أنفسنا مكان طفل يتيم يقرأ هذا الخبر بعبارته الأخيرة لمستنا الحرقة التي تشعره بأن المجتمع يقصيهم، ويعزلهم، وليس هذا فقط، إنما يصفهم بالمرض النفسي المستعصي كأنما هم من ارتكب ذلك عمدا، ولنقص في عقولهم!!
رابعا: التعامل مع اليتامى لا يكون بالأطباء النفسيين والمهدئات وما إليه كما ظهر في الخبر، إنما باحتوائهم الاحتواء الحنون الذي يشرح لهم (الموت) و(اليتم) و(دار الأيتام) و(المشرفين)... الخ على حقائق مفاهيمها ووظائفها؛ فالموت واليتم لا يخلوان من أن يكونا رحمة من الله تعالى لا يكتشفها المصاب بها إلا بعد حين وفي الوقت الذي يشاءه الله جل وعلا، وهو أرحم الراحمين؛ فالشر في باطنه الخير مهما رفضناه أو كرهناه، وإذا أفهموا الأمور على حقيقتها كما هي في تجليات الشرع الإسلامي الرائع، فستغدو حياتهم ونظرتهم لنعمها ومصائبها على أنها نعم كلها، لا شر فيها، ولا حزن، فالحياة تأتي وفق التصور الذي يراها الإنسان من خلاله.لكن إن ظللنا نشعرهم بالمأساة، وننسج الأحزان حولهم، وأننا من ينقذهم، فسنزرع عقد الشر، والحزن، والوحدة، والعزلة، والانحباس في دائرة تفضل الآخرين بالرحمة عليهم، وهذا هو أساس المرض النفسي الذي نجنيه عليهم - نحن ولا أحد غيرنا - بهذه الطريقة سواء كانوا أطفالا الآن، أو أصبحوا كبارا.
خامسا: كان من الممكن سحب تداعيات الأذى النفسية في الخبر من خلال التركيز على الجانب المضيء والمنتج في هذا الحدث الذي أبرز في الصفحة الأخيرة، وذلك بالإشادة بوجود مشرف رحيم يلجأ إليه الأطفال اليتامى ساعة ضيقهم، مثل ذلك المشرف - جزاه الله خيرا وجعل إحسانه في ميزان حسناته - وكذلك لفت الوزارة التي ترعى اليتامى إلى الاستفادة من تجربة ذلك المشرف في تطوير سلوكيات المشرفين العملية وتطوير مهاراتهم، فقد وهبه الله تعالى خاصية الاحتواء الرحيم والإرشاد البناء، وهذا حقيقة مهمة دار الأيتام ووظيفتها، فلما خرج ذلك المشرف من المكان.. خرج معه المعنى، وتسلل الطفل يبحث عنه.. عن معنى الاحتواء الذي وفق إليه مشرفه.
وهذا التوجيه الإيجابي للخبر- إذا كنا نطبق الحوار البناء - لا يسيء في شيء إلى الدار ولا إلى الوزارة (وزارة العمل والشؤون الاجتماعية) المسؤولة عن رعاية تلك الدور، والتي لم تقصر في شيء مما نتابعه من أدائها لواجبها الإسلامي الذي يفرح القلب، ويدعو للافتخار والتواصي بالتنويه بما يطور وينفع.
أرجو أن تنفع هذه الكلمات رغم غلبة الطابع التأثري عليها، وأن تؤخذ على أنها كلمات مجرب؛ ف:
لا يسهر الليل إلا من به ألم
لا تحرق النار إلا رجل واطيها |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الجوهرة آل جهجاه
معيدة في قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية |