كنا صغاراً حينما كان الناس يتناقلون أخبار (الأَسْود النحيل) الذي سيقرِّب البعيد، ويسهِّل الصعب، ويهوِّن الوعر من الجبال، وحينما كانوا يسردون في مجالسهم أخبار المعدَّات الثقيلة التي تدكُّ الصخور، وتهزُّ كبرياء الجبال، وتلتهم التراب والحصا التهاماً، وحينما كانوا يتباشرون بقرب الفرج بعد الشدة، والسعة بعد الضيق حتى قال قائلهم (ساعة تذهب بك إلى الطائف وساعة تعود بك). كان الأسود النحيل حُلُماً، وتحقق ذلك الحلم، وقرُبَت المسافة حتى أصبحت لا تزيد على ثلاث ساعات بالسيارة التي تلتزم بالسرعة المحدَّدة، بعد أن كانت يوماً كاملاً حافلاً بالعناء والتعب والغبار، من الباحة الخضراء إلى الطائف المأنوس.
تحقَّق الحلم، ولكنَّ الحُلُم لم يكن خالصاً من الألم، صافياً من شوائب الأسى، بل ظلَّ وما يزال مصدراً لحوادث مرورية مُؤْسفة، فجعت بها القلوب، وعانتْ منها النفوس، وذهبت فيها فلذات الأكباد، وودَّعت الحياةَ فيها أسرٌ بكاملها، وأصبحت أخبار (الأسود النحيل) مصدر إزعاجٍ للناس كما هي مصدر إسعادٍ لهم بما سهَّلتْ عليهم من صعوبة الطريق بعد تمهيده وتعبيده.
واختلفت الآراء في أسباب هذه المآسي، ونوقشت في أكثر من صحيفة، وتحدَّث عنها أكثر من مسؤول في وزارة المواصلات، وفي إدارة المرور، وبقيت الحقيقة المؤلمة في الحوادث التي لا تنقطع.
وكأني بالأسود النحيل (طريق الجنوب) يقول: لا شك أن هنالك تجاوزاً للحدود المعقولة في السرعة، وتهوُّراً في القيادة من كثير من الناس صغاراً وكباراً، وجرأة على قيادة السيارة من فتيانٍ صغار الأسنان، أو شيوخٍ طاعنين في السن لا يحسنون من القيادة إلا الإمساك بمقود السيارة ووضع القدم على (ضاغط البنزين حيناً) وكابح السيارة حيناً آخر بصورة تجعل من السيارة آلةً خطيرة منذ أن تبدأ انطلاقتها على راحتي الملساء، لا شك في ذلك كلِّه، وفي غيره من الأسباب، ولكنَّ نحول جسدي، وضيق راحة يدي، مع كثرة منعطفاتي، هي السبب الأوَّل في كلِّ ما تراه عيون الباكين، وتشعر به قلوب المحزونين.
وها نحن اليوم نسمع عبارات الفرح، ونرى آثاره على وجوه أبناء المناطق الجنوبية من بلادنا الغالية بعد أنْ رأوا وليَّ عهدهم يفتتح مشروع (طريق الجنوب المزدوج)، ويعيدون ذاكرتي إلى الوراء وهم يستبشرون بقدوم (الأسود الفسيح)، ويتناقلون أخباره، ويسردون في مجالسهم حكايات بدايته ونهايته، ويعبرون عن آمالهم في أن يخفَّ به ما كان يسببه من ألم حينما كان ناحلاً متعرِّجاً، يعيدون ذاكرتي إلى حالة الاستبشار الأولى بالأسود النحيل الذي أراحهم من عناء الطرق الوعرة، والشعاب والجبال التي كانت تعاني منها السيارات أشدَّ العناء، وتذوق منها الأمرَّين.
فرح هناك، وفرح هنا، وتحقيق حُلم في الحالتين، لا يفرِّق بينهما إلا ما ننتظره من زوال كثير من المعاناة والألم مع (طريق الجنوب المزدوج) - بإذن الله تعالى -.
وهناك فرقٌ آخر يكمن في اختلاف الوقتين، فقد كانت الأخبار حين انطلاقة طريق الجنوب الأولى شحيحة لا يصل إليها الناس إلا بصعوبة؛ إما عن طريق بعض الصحف، أو عن طريق المذياع لمن يتابعه - وهم قليل - أما اليوم فإنَّ الأخبار في متناول الجميع، صوتاً وصورة، فما من أحدٍ تراه إلا ويخبرك بتفاصيل (طريق الجنوب المزدوج) بدايةً وانتهاءً حسب الوقت المعلن عنه رسمياً، وبياناً للتكاليف المالية، وتفاصيل دقيقة أخرى.
وهذا الفرق يؤكد الفرق الأكبر بين الوقتين اجتماعياً، واقتصادياً، وثقافياً، فسبحان من يغيِّر أحوال العباد، وتحيةً إلى صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز الذي أسعد الناس بافتتاحه لانطلاقة هذا المشروع المهم وهنيئاً لأهل الجنوب بهذا القادم العزيز.
إشارة:
مِنَنُ الإله عظيمة في أرضنا
إنا لنشكره على هذي المننْ |
|