كلنا نواجه هذا اللون من الاستفزاز الذي هو اختبار لقدرة الإنسان على الانضباط، وعدم مجاراة الآخر في ميدانه، وهناك عشرة أسباب ينتج عنها أو عن واحد منها ضبط النفس:
أولاً: الرحمة بالمخطىء، والشفقة عليه، واللين
والرفق.
وهنا لاحظ أن الله سبحانه وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (159) آل عمران.
وفي هذه الآية فائدة وعبرة عظيمة وهي: أن الناس يجتمعون على الرفق واللين، ولا يجتمعون على الشدة والعنف، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
وهؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، والسابقين الأولين فكيف بمن بعدهم؟
وكيف بمن ليس له مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس، سواء كان من العلماء، أو من الدعاة، أو ممن لهم رياسة، أو وجاهة، أو مكانة، أو تجارة، أو ما أشبه ذلك؟!!
فالرحمة والرفق بالناس، أمر ضروري وأساس، ولا يمكن أن يجتمع الناس إلا على أساس الرحمة والرفق.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه لرجل شتمه: يا هذا لا تغرقن في سبِّنا، ودع للصلح موضعاً، فإنا لا نكافىء من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله عز وجل فيه.
وشتم رجل الشعبي فقال له الشعبي: إن كنت كما قلت فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلت فغفر الله لك.
وشتم رجل معاوية شتيمة في نفسه، فدعا له، وأمر له بجائزة.
فالقدرة على تعويد النفس على الرضا، والصبر، واللين، والمسامحة، هي قضية أساسية، والإنسان يتحلّم حتى يصبح حليماً.
وبإسناد لا بأس به عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، من يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه).
فعليك أن تنظر في نفسك، وتتريث، وتضع الأمور مواضعها قبل أن تؤاخذ الآخرين، وتتذكر أن تحية الإسلام هي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقولها لأهلنا إذا دخلنا، بل قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} (النور: من الآية 61).
وأن نقولها للصبيان والصغار والكبار ومن نعرف ومن لا نعرف.
عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- أي الإسلام خير؟ قال: (تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) أخرجه البخاري ومسلم.
وعن عمار رضي الله عنه قال: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان، الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار).
لهذه التحية معان، ففيها معنى السلام: أنت تسلم مني، من لساني، ومن قلبي، ومن يدي، فلا أعتدي عليك بقول، ولا بفعل، وفيها الدعاء له بالسلامة، وفيها الدعاء له بالرحمة، وفيها الدعاء بالبركة.
هذه المعاني الراقية التي نقولها بألسنتنا علينا أن نحولها إلى منهج في حياتنا، وعلاقتنا مع الآخرين.
ثانياً: من الأسباب التي تدفع أو تهدىء الغضب سعة
الصدر، وحسن الثقة، مما يحمل الإنسان على العفو.
ولهذا قال بعض الحكماء: (أحسن المكارم، عفو المقتدر، وجود المفتقر) فإذا قدر الإنسان على أن ينتقم من خصمه، غفر له، وسامحه، {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (43) الشورى.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما ترون أني صانع بكم؟) قالوا: خيراً! أخ كريم وابن أخ كريم. قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
هداني هادٍ غير نفسي ودلني
على الله من طردتُه كُلَّ مطردِ
ثالثاً: شرف النفس وعلو الهمة، بحيث يترفع الإنسان
عن السباب، ويسمو بنفسه فوق هذا المقام.
لنْ يبلغ المجد أقوامٌ وإن عظموا
حتى يذلوا وإنْ عزّوا لأقوامِ
ويشتموا فترى الألوان مسفرةً
لا صفح ذلٍ ولكنْ صفح أحلامِ
أي: لابد أن تعود نفسك على أنك تسمع الشتيمة، فيسفر وجهك، وتقابلها بابتسامة عريضة، ليس على سبيل التنفير، ولا تقول: لا أريد لخصمي أن يقطف زهرة الانتصار علي، وإنما تدرب نفسك تدريباً عملياً على كيفية كظم الغيظ.
وإنَّ الذي بيني وبيْنَ بني أبي
وبين بني عمي لمختلفٌ جداً
فإنْ أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم
وإن هدموا مجدي بنيتُ لهمْ مجداً
ولا أحملُ الحقد القديم عليهم
وليسَ رئيسُ القوم من يحملُ الحقدا
عود نفسك على هذه المقامات السامقة، والأحوال الراقية، والدرجات العظيمة.
رابعاً: طلب الثواب عند الله:
إن جرعة غيظ تتجرعها في سبيل الله سبحانه وتعالى لها ما لها عند الله عز وجل من الأجر والرفعة.
فعن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (من كظم غيظاً- وهو قادرٌ على أن ينفذهُ - دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور ما شاء)، والكلام سهل وطيب وميسور ولا يكلف شيئاً، وأعتقد أن أي واحد يستطيع أن يقول محاضرة خاصة في هذا الموضوع، لكن يتغير الترمومتر بمجرد الوقوع في كربة تحتاج إلى الصبر وسعة الصدر واللين، تفاجئ ببعد المشرقين بين القول والعمل.
خامساً: استحياء الإنسان أن يضع نفسه في مقابلة
المخطىء:
وقد قال بعض الحكماء: احتمال السفيه خير من التحلي بصورته، والإغضاء عن الجاهل خير من مشاكلته.
وقال بعض الأدباء: ما أفحش حليم ولا أوحش كريم.
وقال لقيط بن زرارة -من حكماء وشعراء العرب-:
وقلْ لبني سعد فما لي وما لكمْ
ترقون مني ما استطعتمْ وأعتقُ
أغركمْ أني بأحسنِ شيمةٍ
بصير وأني بالفواحش أخرقُ
وإن تكُ قدْ فاحشتني فقهرتني
هنيئاً مريئاً أنتَ بالفحشِ أحذقُ
وقال الخليل بن أحمد أو غيره:
سألزمُ نفسي الصفحَ عنْ كل مُذْنبٍ
وإنْ كثرتْ منهُ إليَّ الجرائمُ
فما الناس إلا واحدٌ من ثلاثة
شريفٌ ومشروفٌ ومثل مقاومُ
فأما الذي فوقي فأعرفُ قدرهُ
وأتبعُ فيه الحقَّ والحقُ لازمُ
وأما الذي دوني فأحلمُ دائباً
أصون به عرضي وإنْ لامَ لائمُ
وأما الذي مثلي فإنْ زلَّ أو هفا
تفضلت إنَّ الفضلَ بالفخرِ حاكمُ
وفي حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف، وقد ردوه شر رد تقول عائشة - رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحُدٍ؟ قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيتُ، وكان أشدُ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفقْ إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمرهُ بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي ثم قال يا محمد، فقال ذلك فيما شئت، إن شئت أنْ أطبقَ عليهم الأخشبينِ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبدُ الله وحدهُ لا يشرك به شيئاً) أخرجه البخاري ومسلم.
سادساً: التدريب على الصبر والسماحة فهي من
الإيمان:
إن هذه العضلة التي في صدرك (القلب) مهمة جداً، وقابلة للتدريب والتمرين، فمرن عضلات القلب على كثرة التسامح! والتنازل عن الحقوق، وعدم الإمساك بحظ النفس، وجرب قلبك أن تملأه بالمحبة!
فلو استطعت أن تحب المسلمين جميعاً لن تشعر أن قلبك ضاق بهم، بل سوف تشعر بأنه يتسع كلما وفد عليه ضيف جديد، وأنه يسع الناس كلهم لو استحقوا هذه المحبة.
فمرن عضلات قلبك على التسامح في كل ليلة قبل أن تخلد إلى النوم، وتسلم عينيك لنومة هادئة لذيذة.
سامح كل الذين أخطؤوا عليك، وكل الذين ظلموك، وكل الذين حاربوك، وكل الذين قصروا في حقك، وكل الذين نسوا جميلك، بل وأكثر من ذلك!
انهمك في دعاء صادق لله سبحانه وتعالى بأن يغفر الله لهم، وأن يصلح شأنهم، وأن يوفقهم! ستجد أنك أنت الرابح الأكبر، المرتاح النفس، الهادىء البال، المستقر المشاعر.
وكما تغسل وجهك ويدك بالماء في اليوم بضعة مرات، أو أكثر من عشر مرات، لأنك تواجه بهما الناس، فهذا القلب هو محل نظر الرب سبحانه وتعالى!
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لا ينظرُ إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظرُ إلى قلوبكمْ وأعمالكمْ) أخرجه مسلم.
قلبك الذي ينظر إليه الرب سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات احرص ألا يرى فيه ربك- تبارك وتعالى - إلا المعاني الشريفة، والنوايا الطيبة.
وأنصحك أن كل ما يكره الله تعالى في هذا القلب، تقوم بكنسه كنساً، وترمي به مع شديد الاحترام في أقرب (زبالة).
صحح هذا القلب! اغسل هذا القلب! تعاهده يومياً، لئلا تتراكم فيه الأحقاد، والكراهية، والبغضاء، والذكريات المريرة التي تكون أغلالاً وقيوداً تمنعك من الانطلاق والمسير والعمل، ومن أن تتمتع بنومك، وشربك وأكلك ويقظتك، ومعايشتك لأهلك ومعاشرتك لهم، وجلوسك مع أطفالك، وقيامك بعملك، تخلص من هذه الاشياء التي لا فائدة منها.
سابعاً: قطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم، وهذا
لا شك أنه من الحزم.
حكي أن رجلاً قال لضرار بن القعقاع: والله لو قلت واحدة، لسمعت عشراً!
فقال له ضرار: والله لو قلت عشراً، لم تسمع واحدة!
وفي الحلم ردعُ للسفيه عنْ الأذى
وفي الخرقِ إغراءٌ فلا تكُ أخرقاَ
فتندمَ إذ لا تنفعنك ندامةٌ
كما ندم المغبونُ لما تفرقا
وقال آخر:
قُلْ ما بدا لك مِنْ زورٍ ومنْ كذبِ
حلمي أصمُ وأذني غيرُ صماءِ
وبالخبرة وبالمشاهدة: الجهد الذي تبذله في الرد على من قد يسبك، أو يشتمك، أو ينتقصك لن يعطي نتيجة مثل النتيجة التي يعطيها الصمت، فبالصمت حفظت لسانك، ووقتك، وقلبك، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لمريم عليها السلام: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (مريم: من الآية 26).
والكلام والأخذ والعطاء، والرد والمجادلة تنعكس أحياناً على قلبك، وتضر أكثر مما تنفع.
ثامناً: رعاية المصلحة، ولهذا النبي صلى الله عليه
وسلم أثنى على الحسن رضي الله عنه بقوله: (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) أخرجه البخاري.
أولاً ذكرهم بأنهم من المسلمين، وأثنى على الحسن بهذه المنزلة، وكان هو سيد شباب أهل الجنة مع أخيه الحسين.
فدل ذلك على أن راية المصلحة - أحياناً- تحمل الإنسان على الحرص على الاجتماع، وتجنب المخالفة.
تاسعاً: حفظ المعروف السابق، والجميل السالف:
ولهذا كان الشافعي - رحمه الله- يقول: إن الحر من راعى وداد لحظة وانتمى لمن أفاد لفظة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن حسن العهد من الإيمان) وأمثلة ذلك كثيرة.
عاشراً: أن يسكت الإنسان، مكراً ودهاءً، وانتظاراً
للفرص:
وهذا لا بأس به، لأن الإنسان ربما إذا سكت وانتظر زالت حرارة الغضب من نفسه، فوجده قادراً على السيطرة عليها فيما بعد. ولهذا كانت العرب تقول: من أظهر غضبه قل كيده.
وبعض الناس غضبه في لسانه، فإذا غضب زمجر وأرغى، وأزبد وصرخ، وتوعد وهدد، ثم بعد غد تأتيه وكأن شيئا لم يكن.
بينما بعض الناس يسكت، ولكن يظل محتفظاً بالبغضاء، ولا شك أن الأول خير، ولكن خير منهما: من لا يظهر الغضب عليه لا في حاضره ولا في مستقبله.
قال إياسُ بنُ قتادة:
تُعاقبُ أيدينا ويحلمُ رأينا
ونشتمُ بالأفعالِ لا بالتكلمِ
من مشهور الأمثال العالمية: (الذي يريد أن يفعل، فإنه في الغالب لا يهدد)، هذا من التشريع الذي فيه حفظ لحقوق الأخوة، فلنتعلم مثل هذه الأشياء، ونربي أنفسنا على هذه المعاني.