كما سبق أن قلت من الصعب أن تكتب تمثيلية عن الجوازات هكذا بشكل مفتوح كما لا يمكن أن تكتب تمثيلية أو قصة عن الطلاق أو حرية المرأة. إن أحد أسباب فشل نمو القصة في المملكة يعود إلى استحواذ الفكرة على ذهن الكاتب سواء في الأوساط التقليدية أو الحداثية. فهما وجهان لخطأ واحد. الفرق أن الأول يريد أن يقدم موعظة تقليدية (فضل الأم) والآخر يريد أن يقدم موعظة حداثية (حرية المرأة). يمكن أن تكتب عن حادثة صغيرة أو كبيرة حدثت في الجوازات أو حدثت في خيالك عن الجوازات. وتكون خدمات الجوازات والمشاكل المتعلقة بها خلفية لهذه القصة (إذا شئت) أي عندما تكتب عن الجوازات عليك أن تخترع شيئين أساسيين: بطل أي شخصية، وحادثة مخصوصة أي حادثة ليست متكررة وروتينية تذكر أيضا أن هذا البطل لا علاقة له بمواعظك العصماء لأنه سيواجه مشاكله الخاصة كما سوف نرى بعد قليل.. ثم تبدأ تطرح الأسئلة التي سوف يطرحها مشاهدوك. ما الذي يحدث لهذا الشخص وكيف ستنتهي هذه الحادثة. دعنا نأخذ مثالاً.
مشهد (1): نهار خارجي لوحة مبنى الجوازات. مشهد (2) رجل ينزل من سيارته ويدخل المبنى. مشهد (3) نفس الرجل يقف أمام موظف الجوازات يتحدث مع الموظف فجأة يأخذ الموظف الملف ويخبط به وجه الرجل. يتدافع رجال الأمن في الجوازات يلقون القبض عل الرجل ويقيدونه بالكلبشات ويسحبونه على الأرض بكل عنف.
قطع
لو افترضنا أنك كنت في الجوازات في تلك اللحظة هل تستطيع أن تتجاهل هذا الذي يحدث أمامك؟ كأي إنسان طبيعي ستتدافع مع الناس لترى بقية القصة؟ ستسأل الواقف جنبك وسوف تنصت للافتراضات وسوف تساهم في إثراء الافتراضات. لن تتوقف مراجعة هذه الحادثة في دماغك. لن تنسى أن تقصها على زوجتك أو أبنائك أو أصدقائك؟ ما الذي سيحدث لهذه الحادثة في مجالسك بالتأكيد سوف تسمع مزيدا من الافتراضات مزيدا من التخمينات. ستتفرع هذه الحادثة إلى حوادث تاليه وحوادث سابقة عليها.
لأن كل إنسان تقصها عليه سوف يسهم برأيه سيقول كلمته. كل إنسان ينصت إليك ستتحرك عنده الحاسة الدرامية. لأنه يستمع إلى مشهد درامي لا إلى موعظة. عندها ستدخل هذه الحادثة في حوادث أخرى وأمكنة أخرى. وأزمنة أخرى. مع العلم أن هذه الحادثة جرت في مكان معين يقيد الافتراضات. ستلاحظ أن معظم الافتراضات تدور حول خدمات هذه الإدارة.
لكن لو أخذنا مثالاً شبيهاً به يقع في الشارع أي لا ينتمي إلى مكان معين يقيد الافتراضات. مكان مفتوح على كل الاحتمالات. مثال:
مشهد (1): تقف سيارة ليموزين على الرصيف ينزل منها رجل يمسك بثوبه نشاهد أن الثوب ملطخ بالدم يلتفت الرجل يميناً وشمالاً وكأنه خائف ثم فجأة يركض ويدخل في الحارة وبعد قليل ينزل سائق الليموزين من السيارة ويجري خلف الرجل وبعد ثواني تنزل امرأة شابة من الليموزين وتهرب في الاتجاه المعاكس. قطع
حتى بدون إذنك سيتحد خيالك وفضولك للعمل على تحليل هذه الحادثة. سوف تسهم خلفياتك الثقافية والاجتماعية وحتى أوهامك الخاصة في إغناء هذه الحادثة بعدد لا حصر له من الافتراضات. من هو الرجل ؟ ومن هي المرأة ؟ وما علاقتهما ؟ وما علاقتهما بسائق الليموزين ؟ ستجد أن خيالك يجول في كل أنحاء المجتمع ليجد بداية ونهاية لهذه الحادثة. عندما توفر لهذه الحادثة كل أبعادها تكون في الواقع قطعت ثلاثة أرباع المشوار نحو كتابة التمثيلية.
لو دققنا في المَثَلين سيتبين لنا غياب ما يمكن أن نسميه فكرة. فالمثل الثاني مثلا يأخذك إلى كل الأبعاد. ممكن يقودك إلى قضية أخلاقية يمكن أن يقودك إلى قضية عائلية يمكن أن يقودك إلى قضية بوليسية إلى ما لا نهاية. فالذي أمامنا هو إجراء يعني شيئاً ننطلق منه لبناء القصة أو التمثيلية. هذا ما أعنيه عندما قلت إن الكتابة الفنية إجراء وليست فكرة. تبدأ من نقطة متحركة قابلة للتطور ثم تستمر تكتب بشكل متنامٍ حتى تصل إلى النهاية وبمناسبة النهاية، في الأعمال التلفزيونية هناك شيء يسمى القفلة. أفضل الآن أن أقف ولكن قبل أن أقف أشير إلى أن الكتابة للتلفزيون صنعة متكاملة تمتلك كافة مصطلحاتها ولولا أن هذه الحلقة هي آخر حلقة لسردت مجموعة من أهم مصطلحات الصنعة (Terminology) التي بدونها لا يمكن الانخراط في هذا العمل.
المشكلة الأساسية التي تواجه الكاتب العربي هي غياب الكتب العربية التي تعالج هذه المسألة. على كل حال لم يكن هدفي فتح ورشة تدريبية وإنما عرض عام لصنعة أتمنى توفرها في المملكة. في النهاية كل هذا يدخل تحت مظلة سلسلة مقالات أسميها من لغو الصيف.
|