عندما كان الناس يتحدثون خلال تسعينيات القرن العشرين عن (الامبراطورية) الأمريكية كانوا يتحدثون عنها باعتبارها تعبيراً مجازياً لوصف إنفراد الولايات المتحدة بالسيطرة على شؤون العالم. فالاتحاد السوفيتي اختفى من الوجود. والدول الشيوعية السابقة، من رومانيا وحتى فيتنام تتنافس من أجل اجتذاب الاستثمارات الأمريكية. والموسيقى والأفلام وحتى أجهزة الكمبيوتر وألعابها الأمريكية تغزو كل بقاع المعمورة. وشعرت الأجيال الجديدة الطموحة من شباب مختلف شعوب العالم بما في ذلك الشعب الفرنسي بالحاجة إلى تعلم اللغة الإنجليزية وهي لغة الولايات المتحدة. كما أن شعور دول أوروبا (القديمة) أو أوروبا الغربية وعلى رأسها فرنسا وألمانيا بتخلفها الشديد عن الولايات المتحدة فيما يتعلق بعناصر القوة دفعها بقوة في اتجاه السعي إلى توحيد أوروبا بصورة لم تحدث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من تورط القوة العسكرية الامريكية في العديد من الحروب الإقليمية وعمليات حفظ السلام في العديد من دول العالم فإن الأساس الحقيقي للسيطرة الأمريكية على العالم الآن يتمثل في (القوة الناعمة). وعناصر القوة الناعمة بالنسبة للولايات المتحدة تتمثل في جامعاتها العريقة التي مازالت مطمح لكل الباحثين عن العلم من مختلف دول العالم وفي ثقافتها التي فرضت سيطرتها وشكلت ذوق غالبية الشعوب وصناعاتها المتقدمة خاصة في مجال التكنولوجيا وثقافة السوق الحرة وازدهارها الاقتصادي وقدرتها المستمرة على اجتذاب وتوظيف المواهب والعقول الذكية من مختلف أنحاء العالم.
ولعل من بين الآثار المفاجأة لكتاب دانا بريست (المهمة) هو أنه حتى في التسعينيات كانت أسس الإمبراطورية الأمريكية أكثر (خشونة) مما كانت تبدو عليه في ذلك الوقت. والحقيقة أن كتاب (المهمة) رغم تفككه من ناحية البناء يعتبر مهما للغاية. ورغم أن الكتاب يقدم القليل جداً من الاستنتاجات الخاصة بكاتبته إلا أنه يرسم بوضوح صورة للآثار المتناقضة لانفراد أمريكا بالقوة العسكرية على مستوى العالم. فمن ناحية يمكن القول إن أمريكا بالفعل إمبراطورية القرن الحادي والعشرين من خلال وجود قوات وقواعد عسكرية أمريكية منتشرة في العشرات من الدول حول العالم.
ومن ناحية أخرى فهناك ما يمكن تسميته التوسع الامبراطوري الزائد لأمريكا. وتقدم الصحفية الأمريكية دانا بريست في كتابها قائمة بالتحديات التي ستواجه أمريكا بعد انتصارها العسكري السريع على نظام حكم صدام حسين في العراق استنادا على نتائج الانتصارات العسكرية الأمريكية في الماضي من حرب البلقان ضد يوغوسلافيا في التسعينيات إلى حروبها في أمريكا اللاتينية وغزو جرينادا إلى حرب الخليج الثانية أو حرب تحرير الكويت عام 1991 ضد العراق أيضاً. والمحور الذي يدور حوله الكتاب أو فكرته الأساسية أو على الأقل النقطة التي بدأت بها الكاتبة كتابها هو تراجع النفوذ الحقيقي للقادة العسكريين والمدنيين في مقر وزارة الدفاع الأمريكية على القوة العسكرية الأمريكية. وفي المقابل فإنها تقول إن مركز الثقل داخل الجيش الأمريكي انتقل إلى القادة الميدانيين وقادة المناطق في القوات المسلحة الأمريكية. وتقول بريست التي غطت العديد من الحروب كمراسلة حربية لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية في بداية كتابها إنها ستحكي قصة الجيش الحديث من قصص قادة المناطق وليس قادة الأفرع الرئيسية أو رؤساء الأركان الذين يديرون الجيش الأمريكي من واشنطن. وقادة المناطق هم هؤلاء القادة الذين يتولون مسؤولية القوات الأمريكية في منطقة محددة من العالم. وتنقسم مناطق عمل القوات الأمريكية التي تشمل خريطة الكرة الأرضية إلى خمس مناطق. فهناك قيادة منطقة أوروبا التي يتولى قائدها أيضا منصب القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلنطي (الناتو). كما تشمل هذه القيادة روسيا وأغلب دول إفريقيا بالإضافة إلى تركيا وإسرائيل. أما المنطقة المركزية فتتولى مسؤولية الشرق الأوسط ما عدا إسرائيل وشرق إفريقيا من كينيا حتى مصر. وقيادة منطقة المحيط الهادي التي تشمل الهند وأغلب دول آسيا والمحيط الهادي حتى جزر هاواي. وقيادة المنطقة الجنوبية وتشمل 32 دولة في أمريكا اللاتينية. وأخيراً المنطقة الخامسة وهي المنطقة الشمالية وقد أنشئت العام الماضي لتغطي الأراضي الأمريكية بالإضافة إلى المكسيك وكندا.
وتقول بريست إن قادة هذه المناطق العسكرية الأمريكية التي تغطي كوكب الأرض هم (المندوبون الساميون للإمبراطورية الأمريكية) وتؤكد على مدى الاستقلال والنفوذ والأهمية التي باتوا يتمتعون بها. وقد زاد بالفعل عدد قادة (المناطق) أو من في مستواهم في الجيش الأمريكي خلال السنوات الأخيرة حيث أصبح هناك قائد العمليات الخاصة وغيره. وترى بريست أن قادة المناطق في الجيش الأمريكي هم أصحاب القرار الحقيقيين فيما يتعلق بالعمليات العسكرية الأمريكية. وقد بدأ نجم قادة المناطق في الجيش الأمريكي يصعد عندما صدر قانون عسكري أمريكي جديد عام 1986 والمعروف باسم قانون (جولدووتر ونيكولاس) لإعادة هيكلة الجيش الأمريكي. وكان صدور هذا القانون نتيجة للصراعات الداخلية بين مختلف أفرع القوات المسلحة الأمريكية بصورة باتت تهدد كفاءة هذه القوات. وجاء هذا القانون فأعطى لقادة المناطق العسكرية الأمريكية النفوذ المطلق على جميع أفرع القوات الأمريكية من قوات جوية أو بحرية أو مشاة، العاملة في النطاق الجغرافي لكل منطقة عسكرية. فعلى سبيل المثال لم يعد لقيادة قوات مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) في مقر وزارة الدفاع الأمريكية أي نفوذ حقيقي على القوات البرية أو الجوية. وأصبحت قوات المارينز جزء من القوات البحرية الأمريكية من الناحية الرسمية. وعندما تولى الجنرال أنطوني زيني قيادة المنطقة المركزية الأمريكية كان يصدر أوامره إلى الجنرالات وقادة كل أفرع القوات الأمريكية العاملة في نطاق منطقته مباشرة دون اتصال بقيادات هذه الأفرع في البنتاجون. في الوقت نفسه فإن وزير الخارجية الأمريكي هو الدبلوماسي الوحيد في الولايات المتحدة المخصص له طائرة عسكرية في حين أن باقي مسؤولي الوزارة يسافرون على رحلات الطائرات المدنية التجارية أو يبحثون عن مقعد خال على طائرات النقل العسكري في رحلاتها المنتظمة. في المقابل فإن كل قائد من قادة المناطق العسكرية الأمريكية لديه طائرة مخصصة لرحلاته الطويلة وأسطول كامل من المروحيات لرحلاته القصيرة. كما أن هناك طائرة إعادة تزود بالوقود في الجو مخصصة لخدمة قادة المناطق العسكرية الأمريكية في الرحلات الطويلة. وبعض هؤلاء القادة يتحرك برفقة 35 ضابطاً ومساعداً. ويعيش كل قائد من قادة المناطق العسكرية الأمريكية في قصر خاص فاخر يتمتع بحراسة على مدار الساعة. في الوقت نفسه، فان رؤية هؤلاء القادة العسكريين أصبحت تلعب دورا مؤثرا قويا على السياسة الخارجية الأمريكية. تقول دانا بريست (تقوم وزارة الدفاع الأمريكية بتحديد نطاقات عمل المناطق العسكرية الأمريكية ومراجعتها كل عامين تقريبا تماما كما كانت تفعل الدول الاستعمارية الأوروبية في آسيا وإفريقيا خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. . ويتم تحديد الدول التي تقع تحت نفوذ كل منطقة عسكرية أمريكية وفقا لرؤية الولايات المتحدة لعلاقاتها بهذه الدولة. فعندما نالت دول آسيا الوسطى استقلالها عن الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات من القرن العشرين وقعت هذه الجمهوريات في منطقة قيادة منطقة أوروبا وأمريكا حيث كان تركيز الولايات المتحدة منصبا على اجتذاب هذه الجمهوريات إلى أوروبا وبعيدا عن روسيا (الأم). وفي إطار إعادة رسم حدود المناطق العسكرية الأمريكية كل عامين تم نقل الجمهوريات الإسلامية السوفيتية سابقا إلى قيادة المنطقة المركزية التي تشمل الشرق أوسط وشرق إفريقيا وآسيا الوسطى. وكان هذا التغيير يعكس إدراك الرئيس الأمريكي ووزير دفاعه للتهديد الذي يمثله المتطرفين الذين نشطوا في تلك الدول للأمن القومي الأمريكي). وخلال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون والسنوات الأولى من حكم الرئيس الحالي جورج بوش والتي تمثل محور كتاب بريست تولى أشخاص مهمون قيادة المناطق العسكرية الأمريكية. فالجنرال أنطوني زيني الذي تولى قيادة المنطقة المركزية الأمريكية كان متحدثا بارعا وشخصية قوية. ونفس الأمر انطبق على خليفته الجنرال تومي فرانكس. فقد كان زيني يركب الجمال ويذهب في رحلات صيد الصقور في محاولة من جانبه لفهم طبيعة المجتمع العربي. وفي قيادة منطقة أوروبا كان هناك الجنرال ويسلي كلارك والذي شارك بفاعلية في المناقشات التي جرت داخل حلف الناتو بشأن كيفية التعامل مع الحرب في كل من البوسنة والهرسك وإقليم كوسوفو. وقد رأينا كلارك بعد ذلك يسعى للفوز بترشيح الحزب الديموقراطي للرئاسة الأمريكية العام الماضي رغم فشل المحاولة. وفي قيادة المحيط الهادي كان هناك دينيس بلير وهو أيضا من رفاق كلينتون كما أنه يمثل الجيل السادس من خريجي الكلية البحرية الأمريكية. وفي قيادة المنطقة الجنوبية كان الجنرال شارلز فيلهيلم وهو من أفراد مشاة البحرية الأمريكية وشارك في حرب فيتنام وأصبح منسق الحرب ضد المخدرات في منطقة أمريكا اللاتينية. وبعد عدة فصول من الكتاب بدا أن دانا بريست نسيت فكرة استخدام قادة المناطق العسكرية الأمريكية كأداة لتقديم رؤيتها للعسكرية الأمريكية الحديثة كما قالت في بداية الكتاب. فقد تشتت الكتاب في أكثر من اتجاه ثم عادت الكاتبة لاكتشاف الخطوط العريضة الرئيسية لبناء كتابها والمستمدة من عملها كصحفية غطت الكثير من الحروب ومن المفاوضات وقامت بالعديد من الجولات على مدى سنوات طويلة. وتضمن الكتاب فصولا عن المعارك الأخيرة في أفغانستان وانتهاكات حقوق الإنسان في تيمور الشرقية والكفاح ضد الفساد في نيجيريا. وقد خصصت المؤلفة ثلث الكتاب تقريبا للحديث عن الحرب في البلقان وإقليم كوسوفو ومرحلة ما بعد الحرب حيث كانت المؤلفة مراسلة حربية للصحيفة التي تعمل بها في هذه المناطق. كما تضمن الكتاب تعليقات عارضة لا تزيد عن كونها كلمات قديمة عن قضايا التدريب والتكنولوجيا والتوازن بين القوة والميزانية. على سبيل المثال ظهرت هذه الفقرة في منتصف كتابها : (أنفقت وزارة الدفاع الأمريكية 15 مليار دولار خلال السنوات العشرين الماضية من أجل صناعة الطائرة المروحية الهجومية أباتشي وهي أقل الطائرات المروحية الهجومية تعرضا للأخطار في العالم. كما أنفقت نصف مليار دولار أخرى لإرسال 6200 جندي و26 ألف طن من الأسلحة والمعدات لتحويل أحد مطارات العاصمة الألبانية تيرانا إلى مهبط لمروحيات أباتشي. ولكن هذه الطائرة المروحية تمثل رمزا لكل شيء خطأ بالنسبة للجيش الأمريكي الذي يدخل القرن الحادي والعشرين. فهذه المروحية البطيئة ومقاومتها للتغيير وعدم قدرتها على المناورة وخلوها من وسائل إنقاذ ركابها). الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب هو كيفية نمو واتساع الامبراطورية الأمريكية وكيف تعوق القوة العسكرية الأمريكية وأحيانا تشل الجهود المبذولة للحفاظ على هذه الإمبراطورية. والحقيقة أن مؤلفة الكتاب قامت بعمل عظيم من خلال الربط بين حقائق العمليات اليومية والتوترات الاستراتيجية واسعة المدى التي ترتبط بالدور الأمريكي الجديد في العالم. كما أن الكتاب مكتوب بطريقة جيدة ومليء بالتفاصيل الدقيقة والصور المهمة. على سبيل المثال فإن اثنين من عناصر القوات الخاصة الأمريكية التي أرسلت إلى أفغانستان لم يركبا خيولاً غير مرتين فقط قبل إرسالهما إلى أرض المعارك في أفغانستان حيث تصبح الخيول الوسيلة الرئيسية للانتقال عبر الأراضي الوعرة في ذلك البلد. وكذلك يكشف الكتاب السبب في إصابة القنابل الأمريكية الذكية وحدة عسكرية أمريكية في أفغانستان فيما تسمى بحوادث (النيران الصديقة). فقد كان السبب في هذا الحادث هو قيام المسئول عن توجيه الهجوم الجوي بتغيير بطارية جهاز تحديد الموقع عبر الأقمار الصناعية (جي بي إس) المستخدم في توجيه القنبلة نحو الهدف الحقيقي دون أن يدرك أنه كان عليه بعد تغيير البطارية إعادة ضبط الجهاز الذي يوجه القنبلة الذكية. كما تضمن الكتاب فصلا عن الجندي الأمريكي الذي اغتصب وقتل طفلة عمرها 11 عاما من إقليم كوسوفو أثناء المعارك. فحتى في عصر القنابل الذكية يبقى العنصر البشري والجندي هو الذي يخوض المعارك ويدير السلام. والحقيقة أن القول بأن موضوع الكتاب هو (التمدد الامبراطوري) الأمريكي ينطوي على تبسيط شديد. فالكاتبة تقول إن الكثير من المهام الجديدة لأمريكا ضرورية وفعالة. ولكنها تمضي إلى ما هو أبعد من ذلك لتقول إن تأثيرات التدخلات العسكرية الأمريكية أكثر اتساعا وأشد تعقيدا مما تبدو عند وقوع هذه التدخلات.
كتاب (سلام للنهاية) للكاتب ديفيد فرومكين يمكن أن يكون أفضل كتاب يقدم خلفية لحرب العراق لأنه يتحدث عن العراق منذ فصله عن الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، و كتاب (المهمة) للصحفية دانا بريست مكمل لهذا الكتاب من أجل فهم حرب العراق. يشار الى ان المؤلفة دانا بريست صحفية أمريكية في صحيفة (واشنطن بوست) وقد عملت كمراسلة حربية ومندوبة لدى المخابرات الأمريكية و أمضت السنوات الثماني الأخيرة من عملها في تغطية أخبار القوات المسلحة الأمريكية.
الكتاب:The Mission: Waging War and Keeping Peace with America's Military
المؤلف:Dana Priest
الناشر: W. W. Norton & Company; 2003 |